مَنْ يتتبّع، بتدقيق، الفصول التي تُقرأ في العبادات بعد الأوّل من أيلول، بدء السنة الطقسيّة، لا يخفَ عليه أنّها غالبًا ما تحثّ المؤمنين على محبّة بعضهم بعضًا، وبخاصّة على محبّة الفقراء والمساكين الذين الله معينهم. هل هذا تهيّؤ، من بعيد، لاستقبال المولود الآتي؟ هذا، باعتقادي، أكيد. فبعد ختم أعياد السنة، العيد الأوّل أو الأكبر، الذي ننتظره ليتورجيًّا في السنة الجديدة، هو عيد مجيء المخلّص.
فالكنيسة، في مسيرة العبادة، تعتني أن تربّي أعضاءها. ولذلك تراها تحثّهم، قبل وقوع الأعياد وفي أثنائها وبعدها، على ارتضاء الفضائل المنجّية، أو التأصّل فيها، ليحسنوا التعييد، ويستطيبوا الخلاص الذي تحمله، ويستقرّوا فيه. فإذا لاحت تباشير العيد من بعيد، تذكره النفس التوّاقة، أو تشتاق إليه. وفي مسيرة الانتظار، تحمل ما تذكره العبادات من فضائل تساعد المؤمنين على الوعي والأمانة. فالأعياد المسيحيّة ليس هدفها الاستقرار في التاريخ، ولو أنّها تركن إلى ما حدث فيه، أو تتذكّره وتقوله. فإذا تذكّر الإنسان، في بركات الانتظار، الخلاص الذي أتمّه الله من أجله، يمدّه هذا التذكّر، أو هذا ما يجب، إلى وعي أنّ الله هو الحقيقة الأخيرة في هذا الوجود، فيحبّه، ويعتني بأن يرضيه، ليكون تعييده حقيقيًّا ودائمًا. فالعيد، في الأخير، خروج إلى الآتي، أو قبوله "الآن وهنا".
من أوجه التربية الصحيحة التذكير وإعادة التذكير. ولذلك كان الإصرار على تذكّر الفقراء وعونهم، في هذه المرحلة، وجهًا من وجوه الاستعداد المربّي لاستقبال المولود الإلهيّ. وهذا يكون حقًّا، ودائمًا، بجعل مَنْ يعتبرهم العالم دون غيرهم من البشر أسيادًا في القلوب وعليها. وهذا لا يتمّ بالتأثّر أو الإشفاق فحسب، بل، أوّلاً، باعتبارهم أنّهم إخوتنا في المسيح، وأنّنا معنيّون بمساعدتهم على غير صعيد. فَمَنْ ينتظر ولادة ابن الله الحيّ، مدعوّ إلى أن يحيي الذين يميتهم العالم أو فقرهم. ولا نتعجّب من أنّ طلب العبادات هذا يتكرّر كثيرًا، وفي غير وجه. فالاستعداد يتطلّب قناعةً وتأصّلاً في المحبّة. وهذه وتلك لا يقولهما التوجّع السلبيّ. وليس لنسيانهما عذر. فأن يوجعنا حال الفقراء، يتبعه، لزامًا، أن نمدّ لهم يد العون، ونبذل من أجلهم كلّ "عتيق وجديد"، وأن نفعل ذلك، دائمًا، على رجاء أن نربح لنا "أصدقاء" في السماء أعطاهم ربّهم كلّيًّا أن يقبلوا المحسنين إليهم في "المساكن الأبديّة" (لوقا 16: 9) التي سيكشفها هو في ظهوره.
كلُّ بذلٍ مشروعُ تشبّهٍ بالمسيح، أو نوع من أنواع التشبّه به. فالذين يبذلون أنفسهم ومالهم حبًّا بالآخرين هؤلاء يعرفون، حقًّا، معنى أنّ المسيح "افتقر لأجلنا" (2كورنثوس 8: 9). الخوف، إن كان وجع الناس، في هذا البلد المعذّب وغيره، لا يعنينا، أن يأتي المسيح فقيرًا، ولا يعنينا حضوره أيضًا. الخوف أن نرفضه عن جهل أو إهمال، أو لأنّنا لم نتعوّد الطاعة التي يحضّنا عليها الله في ما قاله وعمله. والمسيح لا يأتينا إن لم نقبله في مظاهره (والفقر منها)، إي إن لم نفتقر، نحن أيضًا، من أجل حبّه ورضاه. فإذا أهملنا المحبّة، واعتبرنا أنّ قوّتنا من العالم وفيه، أو بعثرتنا أيّامنا وغرقنا في وحل الأرض، فسيهملنا الآتي، أو سيأتي من دون أن ندرك حضوره.
ميلاد الربّ، الذي أحبّنا أوّلاً، يحثّنا على أن نستقبله بمحبّة ظاهرة. هذا تمرين للقلب لا يستقيم انتظارنا من دونه. أن نعتقد أنّ الربّ يريدنا أن نشارك في صلوات الكنيسة وأعيادها، (وهذا صحيح)، وأنّه يريدنا أن نكون من العارفين كنسيًّا، (وهذا أيضًا صحيح)، أمران يفترضان، بشكل واقعيّ، أن نخصّص أنفسنا، أو أن نطوّعها لتنفيذ رضاه. فالمسيحيّة هي حياة المؤمنين. والانخراط فيها لا يكون كاملاً إلاّ إذا وعينا أنّ الربّ المتجسّد ضمّنا إلى شعبه أو عائلته. كلّ أوجه الالتزام قاعدته هذا الوعي، وأيضًا هدفه هذا الوعي. "أنتم من أهل بيت الله" (أفسس 2: 19) لا تفهم، بشكل صحيح، إلاّ على ضوء محبّة المسيح ومحبّة الناس، وبخاصّة الذين ليس لهم في الأرض مَنْ يحبّهم أو يعتني بهم وبأمورهم. الذين يميّزون بين الناس، أي الذين يفضّلون وجهًا على وجه، ولو كانوا يلتزمون صلوات الأعياد وغير صلاة، ولو كانوا ينكبّون ليل نهار على الكتب النافعة درسًا وتمحيصًا، يخرجون أنفسهم من عائلة الله، ويشوّهون معنى مجيئه الخلاصيّ. بكلمات أخرى، أن نتقرّب من المقتدرين والفاهمين والجميلين، ونعطيهم المكان الرحب في قلوبنا، ونفصل أنفسنا عَمَّنْ هم دونهم قدرة وفهم وجمال، يعني أنّنا لم نفهم شيئًا من تنازل الكلمة وكشفه. فالمسيح يأتي، ليضمّنا إلى عائلته. وكلّ إنسان في الأرض، سواء وعى هذا أو لم يعِهِ، وسواء قَبِلَهُ أو رفضه، هو من عائلته، وتجب محبّته وإعانته على هذا الأساس.
الذين يحبّون مَنْ ليس لهم مَنْ يحبّهم في الأرض يقولون، صراحةً، حبّهم للمسيح الحاضر الآتي، ويحسنون انتظاره. فالمسيح لن يأتي إلينا إذا لم نأتِ، نحن أيضًا، إلى الذين يحبّهم. ميلاد المسيح يفترض ميلاد الفقراء بالمحبّة والعضد والدفء والرعاية. هذا ما يلوّح به العيد من بعيد، حتّى نقول، بفعله، إنّنا ننتظره، ونرغب فيه حقًّا. فإذا فعلنا، يأتي المسيح إلينا، ويجعل من قلوبنا مقرًّا له ولأبيه ولروحه القدّوس. فالقلوب، التي تتهيّأ بضمّ الناس إليها، يراها الله عرشًا له، فيأتيها، ويتربّع فيها.
فلنحبّ، إذًا، استعدادًا لمجيء المسيح، ولا نبخل بشيء، لأنّ الآتي، ليبذل نفسه حبًّا بنا، يستحقّ أن يرى أنّنا أطعنا كنيسته في كلّ ما أوحت ودلّت، وأنّ الدنيا لم تخلُ من الذين "يحبّون ظهوره"، وينتظرونه كما يحلو له أن ينتظروه.