أن نعيّد لفصح الربّ العظيم، لهو أن نقبل الحياة التي وُهبناها مجّانًا، ونمدّ أنوارها في حياتنا يومًا فيومًا. فالمسيح قام حقًّا. هذه قيمة الوجود في عالمٍ أُعطي أن يسعى إلى أن يكون لله وحده.
من خصائص امتداد أنوار الفصح أن ندرك أنّنا لله أوّلاً، إذًا. وأنّنا لله، تعني أنّ الله فينا عاد لا يريد أن يسكن إلاّ فينا. هذا لا يعني انفصالاً عن الحياة الكنسيّة، بل يطلبها أبدًا. فالمسيحيّ الفصحيّ هو الذي لا يسمح لنفسه بأن يفوته، لحظةً، أنّ قوّة القيامة إنّما تبقى فينا باندماجنا في حياة جماعة الإخوة.
سنقتبس من أنوار الفصح ثلاثة أمثلة إنجيليّة تبيّن لنا كيف يدوم سريان قوّة الفصح فينا.
أوّل هذه الأمثلة ما جرى في حادثة تلميذي عمّاوس (لوقا 24: 13- 35). فهذه، في قراءتنا إيّاها، تعوّدنا أن نراها صورةً للحدث الإفخارستيّ المحيي. فالربّ، الذي ظهر لاثنين من تلاميذه، مشى معهما على الطريق، وأخذ يعلّمهما، ثمّ عرّفهما بنفسه عندما كسر الخبز، قَبْلَ أن يختفي عنهما. ولكنّ هذه القراءة، على أهمّيّة مدلولاتها، تفترض أن نتبع نور امتدادها، أي أنّ التلميذين، بعد أن عرفا يسوع، "قاما في تلك الساعة عينها، ورجعا إلى أورشليم، فوجدا الأحد عشر مجتمعين، وكانوا يقولون إنّ الربّ قد قام وتراءى لسمعان. فرويا (هما) ما حدث في الطريق، وكيف عرفاه عند كسر الخبز". وهذا، الذي يبيّن أنّ هذين التلميذين، قَبْلَ أن يلتقي الربّ بهما على طريق عمّاوس، كانا قد قرّرا أنّ كلّ شيء قد أنهاه صلب يسوع وموته، أي كانا قد تركا الجماعة الرسوليّة، يبيّن، تاليًا، أنّ الربّ الحيّ إنّما دفعهما، بتعليمه وخبزه، إلى أن يعودا إلى الجماعة في أورشليم. ويمكننا، ممّا نقلناه هنا بين هلالين، أن نلاحظ أنّ التلاميذ، في أورشليم، كانوا يخبرون أنّ الربّ قد قام، وأنّ العائدَيْن إليهم قد شاركا في شهادة الإخبار. فالفصح أن نبقى ندرك أنّ حياة الله إنّما تقوى فينا بالتزامنا حياة الإخوة أبدًا، وتاليًا بتوافق الشهادة لإلهنا الحيّ.
من طبيعة امتداد الفصح أيضًا، أن نحيا أنقياء بانتظار الربّ الآتي. كلّنا نعتقد أنّ الربّ جدّدنا بفصحه. وهذا صحيح. ولكنّ هذا الصحيح يفترض منه أن نقطع نحن أنفسنا أيّ حلف مع الخطأ.
عندما روى يوحنّا الإنجيليّ خبر ترائي يسوع لتلاميذه على شاطئ بحيرة طبريّة، قدّم له هكذا: "وتراءى لهم على هذا النحو. كان قد اجتمع سمعان بطرس وتوما الذي يقال له التوأم ونتنائيل وهو من قانا الجليل وابنا زبدى وآخران من تلاميذه" (21: 1 و2). ماذا أردنا من نقل هذه الرواية بعد تمهيد يحثّنا على أن نرى امتداد الفصح في أن نختار النقاء أبدًا؟ ما أردناه، يُظهره ترتيب الأسماء. لنراجع: بطرس ثمّ توما ثمّ نتنائيل... طبعًا، هذا ربّما نراه ترتيبًا طبيعيًّا. بمعنى أنّ بطرس، في غير مشهد يظهر فيه، يصرّ التراث الإنجيليّ على أن يقدّمه. ولكنّ هذا لا يمنعنا من أن نذكر، هنا، أنّ بطرس هو الذي أنكر يسوع، وأن توما الذي شكّ فيه... الترتيب، من هذه الوجهة، يبدأ بِمَنْ أخطأا، وتابا إلى الله. أيضًا هنا، يجب أن نرى أنّ محبّة التوبة، أي خيار النقاء الدائم الذي وهبنا إيّاه الربّ الحيّ، لا يدوم لنا بسوى أن نندمج في حياة الإخوة. بطرس ثمّ توما ثمّ نتنائيل الذي وُصف بأنّه "لا غشّ فيه" (يوحنّا 1: 47)، ثمّ ابنا زبدى، يوحنّا الحبيب وأخوه يعقوب... إنّها إيقونة الجماعة التي أدركت أنّ جدّة الفصح إنّما خيار يدوم لنا بأن نعي أنفسنا خطأة محبوبين (أو خطأة يتوبون) في جماعة إخوة كلّ شأنهم أن ينتظروا أن يظهر لهم الربّ بمجده.
ثمّ الفصح يمتدّ بقبول الربّ شريكنا في كلّ ما يعترينا في الأرض من ألم وظلم وقهر.
كلّنا نذكر حادثة ظهور الربّ لتلاميذه مرّةً ثمّ أخرى بعد أن أصرّ توما الرسول على أن يرى جراح صليبه: آثار المسامير والحربة (أنظر: إنجيل اليوم). لن نعلّق على ما في هذين الظهورين، اللذين تمّا يوم الأحد، من تأكيد أنّ الربّ إنّما يخصبنا بفصحه في غير لقاء إفخارستيّ (القدّاس الإلهيّ)، بل سنحمل ما فيهما من دلالة رائعة تبيّن أنّ الربّ ارتضى أن يتنازل إلى أن يشاركنا في كلّ شيء، ما عدا الخطيئة.
إذا دقّقنا في هذين الظهورين، فلن نرى، بوضوح ظاهر، أنّ توما، بطلبه، أراد أن يتبيّن أنّ الربّ شريكنا في كلّ شيء. طلبه كان يريد منه أن يلمس، لمس اليد، أنّ المسيح قام حقًّا. ولكن، هل ما نطلبه يحدّ مدى كشوفات الربّ؟ لقد أجمع التراث المسيحيّ على أنّ علامات آلام المسيح، التي ظلّت ملتصقةً بجسده المنوَّر، هي دلالة ساطعة على أنّ مشيئته العظمى أن ندرك أنّه يحمل آلامنا معنا. في العادة، نحن، في أوان الألم والقهر، نرغب في أن ينقذنا الربّ. وهذه رغبة صالحة ومشروعة. ولكنّ المسيح الحيّ، فيما يريدنا أن نبقى على رغبتنا، ينتظر أن نرتقي إلى أنّه معنا في أوان الألم وغير آن. فمشكلة الألم، الذي يحدثه المرض مثلاً، لا يحصرها ما يخلّفه من أوجاع جسديّة أو نفسيّة، بل تبدو، أيضًا، في دوّامة العزلة الرهيبة التي يدخلنا فيها. وإذًا، الفصح، ممدودًا، أن نستدرّ من حقيقة أنّ المسيح قام أنّه بات معنا، معنا أبدًا.
في هذا الفصح العظيم، كسر لنا يسوع كلّ ظلام بعدنا وخطئنا وعزلتنا. هذه، التي هي نوع من موت، أخذها الربّ على عاتقه، وكتب على أجسادنا، بمداد دمه، أنّنا له. أن نعيّد للفصح، جميل أن نعيّد له. لكنّ الأجمل أن نحيا في عيد دائم. الأجمل أن نحمل معنا إلى أيّامنا أنّ الربّ أحيانا من كلّ ظلام يتربّص بنا، أو يضربنا. والأجمل، الأجمل، أن نسرح في مدى هذا الجمال، ونصدّق أنّنا، به، غدونا أبناء النور.