11ديسمبر

مريم

            سنترك المواقع الإنجيليّة التي تذكر العذراء في سياق ميلاد ربّنا يسوع. ونتبع خطاها بعد أن أخذ ابنَها عملُ الكرازة. هذا، ليس بعيدًا من إظهار مساهمتها في مجيء الربّ إلى العالم، يسهّل علينا الكلام على وجهها الرضيّ. فمريم هي "أمّ ربّي" في ميلاده وفي غير إطلالة أخرى أريد لنا أن تدعم قلوبنا.

            ثمّة إشارات إنجيليّة عدّة إلى مريم (أنظر مثلاً: متّى 13: 55؛ مرقس 6: 3؛ لوقا 11: 27). ولكنّ ظهورها الساطع، بعد أن جاد الربّ علينا بانطلاق كرازته، يبدو في ثلاثة مواقع. الموقع الأوّل في عرس قانا الجليل (2: 1- 12). والثاني يوم أتت إلى يسوع هي وبعض أقاربه يطلبون أن يردّوه إلى البيت (متّى 12: 46- 50؛ مرقس 3: 31- 35؛ لوقا 8: 19- 21)، والثالث، في النهاية، عند صليب يسوع (يوحنّا 19: 25- 27).

            في قانا، كانت مريم حاضرةً في العرس. تبدو أنّها مدعوّة إلى المشاركة في حفل زواج صديق أو قريب. مَنْ هو؟ لا يعنينا هنا. ما يعنينا أنّ يوحنّا افتتح إنجيله بذكره مشاركة مريم في هذا العرس. ثمّة مَنْ رأى أنّ هذا الحدث الأوّل هو، بمعنى من المعاني، يطلّ على إطلالتها الأخيرة أمام صليب ابنها. فهنا، في العرس، يذكر الماء والخمر. وهناك، عند الصليب، نقرأ عن الماء والدم اللذين خرجا من جنب المخلّص. وعند الصليب، العريس ظاهر، أي يسوع الذي اتّحد بنا بموته، ليحيينا أبدًا. وثمّة من التشابهات التي تدلّ على ما جرى يوم تمجّد الربّ على الصليب، ذكر: "اليوم الثالث" (الذي هو اليوم السابع في ترتيب يوحنّا هنا)، و"أيّتها المرأة"، و"ساعتي"، و"أولى الآيات" و"أظهر مجده"... وإذا انحصرنا بالعرس، فيجب أن نرى أنّ لكلمة مريم مكانةً عظمى عند ابنها. هذا استقى منه تراثنا أنّها "الشفيعة الحارّة". فمريم هي التي أشارت إلى يسوع، بوداعتها المعهودة، أن "ليس عندهم خمر". وبعد أن أبدى يسوع لها أنّ الأمر لا يخصّني ولا يخصّك بقوله لها: "ما لي ولكِ"، توجّهت هي إلى الخدّام عالمةً بوزن كلمتها عنده. قالت: "مهما قال لكم، فافعلوه". وفعل يسوع، من ثمّ، ما فعله. فمريم، بما قالته للخدّام، قالت، في الواقع، ما يشكّل طبيعة علاقتها بنا. لا تُختصر مريم! لكنّ هذا القول كان يكفي، ليظهر أنّها لا تريدنا سوى أن نفرح باختبار أن نطيع الربّ في كلّ شيء. فقولها لا يخفي ثقتها الكلّيّة بابنها. وأرادت أن تمّد إلينا هذه الثقة الكلّيّة، لنقتدي بها في حياتنا أبدًا. لا يعني هذا أنّ يسوع يحتاج إلى مَنْ يذكّره بنا وبحاجاتنا، بل يعني أنّها أمّنا أيضًا.

            الإطلالة الثانية تصوّرها محاطةً بإخوة (أقرباء) صلات قرابتهم بيسوع متفاوتة (أنظر هذا المعنى للأخوّة في: تكوين 13: 8، 14: 16، 29: 15؛ أحبار 10: 4؛ 1أخبار 23: 22). وفي إيراد هذا الحدث، يذكر متّى أنّ أمّه وإخوته جاءوا إليه فيما كان يعلّم الجموع، ووقفوا خارج الدار: "يريدون أن يكلّموه"، ولوقا: "يطلبون أن يروه". أمّا مرقس، فَقَبْلَ أن يدوّن هذه الإطلالة، يمهّد لها بقوله إنّ "ذويه خرجوا، ليمسكوه" (أي ليعيدوه إلى البيت)، "لأنّهم كانوا يقولون: إنّه ضائع الرشد" (3: 21). ولذلك يكمل أنّهم، عندما وصلوا إلى حيث كان، وقفوا خارجًا، "وأرسلوا إليه مَنْ يدعوه". أمّا ردّ يسوع، فهو، تقريبًا، ذاته في الأناجيل الثلاثة. وردّه وفق لوقا: "إنّ أمّي وإخوتي هم الذين يسمعون كلمة الله، ويحفظونها". هذا كلّه يبيّن أنّ مَنْ يسمّون إخوته كانوا، إلى الآن، لا يؤمنون برسالته. هل هذا يسمح لنا بأن نرصف مريم معهم؟ قطعًا، لا! وهذا يؤكّده ردّ يسوع عينه الذي يذكّرنا بما كُتب عن خير أمّه، أي أنّها "كانت تحفظ تلك الأمور كلّها في قلبها" (لوقا 2: 69). بمعنى أنّه أراد سامعيه، وأرادنا جميعًا أن نبقى على علم أنّ أمّه، التي أتى هو منها، كانت، هي أيضًا، تأتي ممّا يخرج من فمه، وتاليًا أنّنا، بتمثّلنا بها، إنّما نغدو عائلته.

            أمّا الإطلالة التي تظهرها عند صليب ابنها، فهي آخر إطلالة اخترناها هنا. في الشكل والمضمون، تُظهر هذه الإطلالة أمانة مريم التي التزمت مسيرة ابنها إلى النهاية. وهذا ما أراده يوحنّا، أو ممّا أراده، من تفرّده بذكره هذه الإطلالة. لكنّ سحر هذا المعنى يجب أن نرى فيه، أيضًا هنا، تميّز مريم في فضيلة الإصغاء. فهنا، لا نسمعها تتكلّم، أو تبكي، أو تبدي أيّ تصرّف يدلّ عليها، بل كلّها أذنان! وإذا أدهشنا أنّ الإنجيليّ لم يصرّ إلاّ على أن يرينا إيّاها، صامتةً، تصغي، فيجب أن نُبقي اندهاشنا، ونعزّزه بتذكّرنا طاعتها الكلّيّة. فهنا، لا يبدو يسوع يقول شيئًا إلى أشياء أخرى، بل يرسم مصير أمّه الدائم التي تبدو، هي هي، منذ أن قالت لجبرائيل: "أنا أمة للربّ، فليكن لي حسب قولك" (لوقا 1: 38). وماذا رسم يسوع لها (ولنا)؟ قال لتلميذ حبيب إليه عن أمّه: "إنّها أمّك". وقال لها عنه: "إنّه ابنك". ويختم يوحنّا الرسم بقوله: "ومنذ تلك الساعة، استقبلها التلميذ في بيته". وهذا، الذي يدلّ على أنّ يسوع هو هو في أحبّائه، يجعل مريم أمًّا لكلّ حبيب إلى ابنها، أي أمًّا لتلاميذه ولكلّ إنسان في الأرض. أمّا عن أنّه استقبلها في بيته، فهذه لا تشير إلى حضنه أمًّا جديدةً لا معين لها، بل إلى أناقة حضورها الدائم في حياة المؤمنين بالربّ. أن يطلب يسوع أن نأخذ مريم إلى بيوتنا، لهو أنّه يريدنا أن نقتدي بفضائلها الثابتة، لنتعلّم منها كيف نلده في العالم. هذا لا يعني أنّ مريم تتكرّر، بل يعني أنّها ملكة الذين يعنيهم أن يُحيوا العالم بإله جاد علينا بحياته.

            إذا عدنا إلى قانا ثانيةً الآن، فسيبدو لنا أنّ مريم قالت، فعلاً، كلّ شيء بقولها لابنها: "ليس عندهم خمر"، وللخدّام: "مهما قال لكم، فافعلوه". هذه هي أمّه، أمّنا، التي تخدم اجتماع السماء والأرض!

شارك!

جميع الحقوق محفوظة، 2023
Skip to content