الكتاب المقدّس هو الغذاء الروحي اليومي الذي يقيم المؤمنين في الشركة مع الله، وهو كما يقول الأب ألكسندر شميمن: "صوت الله الذي يحثّنا أيضًا وأيضًا". ذلك أن كلّ إنسان نَسَبَته المعمودية إلى الله يبقى في التلمذة، فالمعمودية لا تُعطى بالضرورة بعد انتهاء مرحلة التلمذة - هناك استعدادات معينة للمزمع أن يتقبل المعمودية بالغًا - وتاليًا فإن المعمودية لا توقفها. ولعلّ كلمة "تلميذ" هي من أهمّ المصطلحات المسيحية التي فقدتها الجماعة الأولى بعد أن أُطلق على التلاميذ أوّل مرّة اسم "مسيحيّين"، وكان ذلك في أنطاكية (أعمال 11: 26). فقَبِلَ التلاميذ هذا اللّقب (مسيحيين) - الذي قد يكون أُطلق عليهم استهزاءً - وأحبوه لأنهم رأوا فيه كيانهم الجديد. هم مسيحيون، أي إنهم أتباع يسوع المسيح، وبمنطق الدعوة الجديدة هم تلاميذُه.
الكتاب المقدّس هو وديعة النور في الكنيسة، وهو من أهمّ علامات حضور الرّبّ فيها. ولذا يُقرأ، على طريقة الأنبياء، إصغاءً: "تكلَّمْ، يا ربّ، فإن عبدك يسمع" (1 صموئيل 3: 9). فالتلميذ يأتي من كلام معلّمه وهو تاليًا لا يناقش الحقيقة الكاملة. هو يقرأها، وحقيقتها أنها هي التي تقرأه، إذ تفحصه لتنقّيه. شأن التلميذ أن يصغي ليطيع ويحيا. يقول الأب بولس طرزي: "إن الكنيسة الشرقية عندما تعرّف عن نفسها، تقول إنها عبارة عن قدّيسين وأيقونات" ("حقيقة الكتاب المقدّس"، محاضرة نُشرت في "النور"، آذار ـ نيسان 1974). ذلك أن الكلمة الإلهية، وهي الأيقونة الحيّة، وجب أن تأخذ موقعها ومداها في حياة الناس ليصيروا هم أنفسُهم أيقونات للّه مقدّسة. فقراءة الكتاب المقدّس غايتها فهم مشيئة الله والعمل بمقتضياتها كما يعبّر القدّيس إيلاريون: "الكتاب المقدّس بفهمه وليس بقراءته فقط". القراءة، إذًا، هي في نوع القراءة "كيف تقرأ؟" (لوقا 10: 26). ذلك أن الكتاب المقدّس يتلقّاه مَن أحبّ الربّ حبًّا جمًّا وتاب إليه، أي مَن قَبِلَ أن يغِّير ذهنه تغييرًا كاملاً ويحدّد كيانه الإنساني بدءًا بنكران ذاته لأجل أن يتحقّق بالروح القدس. هذا يعني أن القارئ الحقيقي يجيء إلى الربّ فارغًا، فلا يقيس الكلمة الإلهيّة بمقياس منزلته وقامته وإنّما يفحص حياته من حيث عتاقتها، ويقيسها بمنزلة المسيح التي لا توصف حتى يتجدّد به. لقد وُصّينا ألاّ نجعل "في ثوب عتيق قطعة من نسيج خام، لأنها تأخذ من الثوب على مقدارها، فيصير الخرق أسوأ" (متّى 9: 16).
غنيٌّ عن القول إن التراث الأرثوذكسي قال بقراءات متنوّعة للكتاب المقدس (مكسيموس المعترف). فهناك مَنْ يقرأ ويميل إلى التأمّل بأحكام الله أي إلى الاستسلام للروح القدس ليحاوره (الروح) ويقيمه في الحق. وهناك مَن يسعى إلى القراءة والدرس والتفتيش عند المفسّرين وعند الآباء القدّيسين المقيمين دومًا في حاضر الكنيسة. ما لا ريب فيه أن أيّة قراءة للكتاب المقدّس تفترض إعمالاً للعقل مع القلب، هذا إذا قلنا مع أوريجانس بأن فهمه "نعمة من الله"، ومع الآباء عمومًا قولهم إن فهم العلم الإلهي وحياة التقوى يتكاملان في التزام واحد. يقول القدّيس إيريناوس: "إن الإنسان القدّيس، المؤمن، المتديّن، المحبّ للحقيقة، وحده قادر على فهم العلم الإلهي". وتاليًا فإن هذه القراءات وغيرها، على تنوّعها، غايتها واحدة هي أن تقيم القارئ في المواجهة (الوقوف وجهًا لوجه) أمام الله الحيّ ليأخذ الموقف: إن كان مع الله أو ضدّه، فتتجدد حياة الإنسان واستقامتها على أساس قراره. فالله مشروعه خلاصي والكلمة الإله الذي صار إنسانًا هو يدعو الإنسان كي يصير كلمة بمعنى أنه يدعوه إلى الألوهة، أو كما يقول سيادة المطران جاورجيوس (جبل لبنان) يدعوه ليصبح "إنجيلاً آخر... مقرّا لله".
هذا يفضي بنا إلى العودة إلى ما نبّه إليه العلاّمة الإفريقي ترتليانس (القرن الثالث) بأنّه ليست كلّ قراءة في الكتاب المقدّس هي قراءة مقدّسة أو، كما يقول تعبيرنا الليتورجي، قراءة شريفة. ذلك أنّه اعتبر أن الكتاب المقدّس رسالة خلاصيّة والذين يحتكمون إليه وجب أن يكونوا مؤمنين حقيقةً بأن الله هو الذي يملك على حياة الناس وهو الغلاّب كلّ وثنيّة. وتاليًا فإنّ التعاطي الحقيقي معه يكون تحديدًا - كما قلنا - في موقف التلمذة، الذي يتبنّاه المؤمن ويبقى فيه، وإن تكريمه هو في طاعة كلماته مهما حاول العالم إخفاءها أو تحريفها. وممّا لا شكّ فيه أنّ الحركات الليتورجيّة، من إحناء للرأس أثناء تلاوته أو السجود له أو تقبيله، التي هي جوهريّة في الطقوسيّات. هذه كلّها، إذا لم تأتِ نتيجةً للسماع ونحت الحياة لتوافق الكلمات، تكون أشكالاً سرابيّة تجعل ممّا كان سببًا للفرح وللنموّ العقلي والروحي لكثيرين ممّن أحبّوا يسوع، صنمًا لا معنى له ولا قوّة.
الكلمة بالنسبة إلى المؤمن الحقيقي هي غذاء يومي ومتكأ يرمي همومه عليه ويحيا بها. وممّا لا شكّ فيه أن موقع الإنجيل في القدّاس الإلهي هو دعوة إلى وضعه في قلب الحياة الجديدة. ذلك أن قبوله شرط للاتحاد بجسد الربّ ودمه. فالإنجيل هو العون للخاطئ والمرشد للضالّ وهو الراصد كلّ انحراف.
لا بدّ لكلّ تلميذ، تتلمذ لملكوت الله، أن يعي بأن كيانه يحيا ممّا يخرج "من فم الله" (متّى 4: 4) تلك هي لغة الحياة التي يمكنها وحدها أن تخرس كلمات الشيطان التي يصرخها عالم الموت.
جميع الحقوق محفوظة، 2023