مساهمة في كتاب "وجه ووهج"، تعاونيّة النّور الأرثوذكسيّة، ٢٠٠٧
لا يرضى المطران جورج (خضر) أن يُتكلَّم على بشر. فـ"الربّ قريب". والكلام على الربّ هو الكلام المبتغى عنده. وحسبي أنّني بدأت أتكلّم عليه. والسماح منه إن فعلت.
أجيء، أوّلاً، من أيّامٍ خلت، من تلك القاعة العتيقة التي رنَّ اسمُهُ فيها، أوّل مرّة، في أذنيّ. كنّا نجتمع زُمرة شباب صفعت كلمة الله تاريخهم القديم، ليتوبوا عنه، ويحاولوا أن "يجعلوا مشاركتهم في الإيمان فعّالة بمعرفة كلّ الخير الذي يستطيعونه في سبيل المسيح" (فيلمون 6). والخير تغدو تريده إن فتحت قلبك، بثقةٍ، للنعمة التي الروح يعطيها. وكان المسعى جهاديًّا. والعضد الأخويّ أساس في الجهاد المسيحيّ. وبين الإخوة من كان كبيرًا في حبّه وفهمه. وإليهم بتَّ تلوذ إن أردتَ أن تحبّ، حقًّا، ذاك الذي أحبّك أوّلاً. فمعهم تلقى من الرقّة والحنان والنصح ما يجعلك تنفتح على غنًى كنتَ تعتقده، قبلاً، نجاحًا في الدنيا وجنيها الزائل وبريقها الخدّاع. فتجد نفسك، فجأةً، سالكًا في خطّ آخر. تراك أمام وجه الله الذي كنتَ تضعه خلفك. فتلملم ثيابك المتّسخة، وترميها في سلّة مهملاتك. وتأخذ، من الرفقة، ثيابًا هم قرّروا أنّها تناسب مقاسك. وترتديها. وهناك، في ورشة الكلمة وشرحها، يسترجع كبارك كلمات رجل لا يفوتك حبّهم له. فتجد نفسك شريك حبّ قبل معرفة. كيف يُعرف أحدٌ قبل أن يُعرف؟ لا تسأل. فتقبل المعروف جديدًا كما يحكى عنه، أو تُنقَل كلماته ومواقفه. فإن كانت عادتك، في الدنيا، أن تحبّ شخصًا يحبّه غيرك ممّن تثق بهم، فيهون عليك أن تقبل العادة في مجتمع أفضل من مجتمعك وأنقى وأبقى.
ثمّ تلقاه، أوّل مرّة، وجهًا بوجه، في خدمة عيد كنيسة رعيّتك. وتخافه كثيرًا. لماذا هذا الخوف الذي اقتحم كيانك من دون استئذان؟ هل كان فيك من دون أن تدري؟ أو إنّه دخلكَ في تلك القاعة التي تعلّمت فيها الخوف من ماضٍ صرتَ تحاول أن تتركه؟ لماذا الخوف؟ يبقى هو سؤالك الأساس والدائم. وتكتشف جوابه يومًا فيومًا. تكتشف أنّ الخوف، خوفك، سببه انعكاس النور على ظلمتك. فضيحة هو اللقاء بمن قرّروا أن تكون وجوههم إلى النور ثابتةً. فضيحة تفضح عتاقتك وظلمك وانشغالك التافه. وتتعلّم أنّ هذه هي طريقة الفضح في جماعة يشغلها صدق الكلمة. أجل، فشأن الذين أحبّوا يسوع على كلّ ما في الوجود أن يفضحوا كلّ خلل فيك، لتحاول أن تداوي ذاتك، وتشفى بتمثّل طاعتهم. ثمّة أمر، في الوجود، لا تفهمه صحيحًا قبل أن تقرّر أنّ وجودك، قديمًا، هو وَهْمٌ. كلّ وجود آخر غير مسيح الله وَهْمٌ. وهل يسمّى، حينئذٍ، ما تحسبه وجودك وجودًا؟ فتثبت على قناعة أنّك أنت لا شيء إن لم يجدك مسيح الله (يوحنّا 5: 14). هذه الأفكار تحرّكت كلّها في هذا اللقاء الأوّل، وتأكّدت في الأيّام التي تلتها. أمّا في ذلك اللقاء "المرعب"، فكنتَ تراه واقفًا في "مكان أبعد"، أي في الخدمة عينها. يقرأ. ينشد. ثمّ يتكلّم. ما سرّ تلك الكلمات الخارجة قويّة من جوف لحميّ؟ هل اللحم يقدر على أن يتكلّم بهذه الطريقة التي تسمعها، فتحسبها قراءة؟ ترفع رأسك، تنعم النظر في يدي المتكلِّم، وهدفك أن ترى ورقة. ولا تجدها. أين الورقة التي يقرأ فيها مَنْ يتكلّم كمَنْ يقرأ؟ ما هذا الاصطفاف الحلو؟ تفهم على قدر ما تستطيع. لكنّ الحلاوة، التي تنبعث من الكلمات، تجتاحك. تحاول أن تذكر ما سمعت. فتجد الحلاوة. تضيع في الحلاوة. ويبقى لك، نصيبًا، بعض كلمات. فتحفظها في قلبك، وتشدّ عليها، لئلاّ تسرب. وتخرج إلى رفقتك، لتردّد. يا لحلاوة الترداد! الآن فهمتَ لماذا رفقتك يردّدون. لقد غلبتهم الحلاوة. دخلت كلماتٌ في أجوافهم، وحلّتهم. تسأل رفقتك: لماذا يقف الأسقف، في لقاء الجماعة، على كرسيّ عالٍ؟ فيقولون: لأنّه "الرقيب" في الجماعة. تسمعهم. وتضيف إلى كلامهم الجواب الذي ألّفته لذاتك. إنّه يصعد، ليتكلّم، كما المطر الهاطل، من فوق. تلك الصورة هي التي فتنتك. كيف ربطتَ بين الكلام والمياه؟ لا تعرف. لكنّ ما تعرفه أنّ هذا الربط هو الذي يفسّر لك ذلك الترداد الذي تلقّيته، أوّل مرّة، في تلك القاعة العتيقة في أسفل كنيسة رعيّتك. لقد جمعوا الكلمات النازلة كما تنزل المياه إلى المنحدرات، واختزنوها في أجوافهم. أنت كنت تعرف أنّ هذا ليس أصل مياه الأرض علميًّا. وصرتَ تعرف أنّه أصلها كنسيًّا. ألم تستعد، بعدها، أنّ الله قال على لسان نبيّه إشعيا: "لأنّه كما ينزل المطر والثلج من السماء، ولا يرجع إلى هناك دون أن يروي الأرض، ويجعلها تنتج وتنبت، لتؤتي الزارع زرعًا والآكل طعامًا، فكذلك تكون كلمتي التي تخرج من فمي" (55: 10 و11)؟ وهذه الصورة، التي فتنتك، ستبقى هي جوابك الأوّل والدائم لك.
مرّت سنوات. وكان اللقاء يتلو اللقاء. وما من لقاء كان يخلو من خوف. عدتَ لا تسأل. الجواب، الذي حفظتَهُ، تأكّد أكثر في رقّة اللقاءات المتعاقبة ورصانتها. إلى أن وجدتَ نفسك، في إحدى غرف دار المطرانيّة، تدرس على برنامج أعدّه صاحبها لك. "يكفيني، أوّلاً، أن تقرأ مجلّة النور، منذ صدورها، من الدفّة إلى الدفّة". "لا تهتمّ بإعالة أهل بيتك". "سأكلّف مَنْ يفهم بهذا الأمر". "فقط، اقرأ". "حاول أن تقرأ هذا المقال الآن". "لا، أنت تحتاج إلى من يعلّمك قواعد اللغة". "اللغة العربيّة لغة رفع". "لو رفعتَ، لقلّت أخطاؤك". "حسنًا، سأكلّف من يعلّمك اللغة أيضًا".
تنزل الدرج. وتدخل الغرفة التي خُصّصت لك. ثمّ تلقى نفسك، فيما تلتزم القراءة، صاعدًا نازلاً، ونازلاً صاعدًا. أنت بتّ تعرف الوقت المناسب: باكرًا. في كلّ لقاء، تجد ذاتك أمام شخص يشعرك بأنّك وإيّاه من مرتبة واحدة! ما من كبير وصغير في تلك الشرفة الهادئة التي تطلّ على بضع شجرات صنوبر. فتضحك في سرّك! يا لهذا الرجل الغريب الأطوار! يبدو أنّه لا يعرف ذاته حقًّا! من أين لك هذا؟، تخاطب نفسك. وتتابع: افرح، فأنت، الآن، في مقام الكبار! ولكنّ الأمور المضحكة تتّضح معانيها لك شيئًا فشيئًا. فالرجل يراك كما يجب أن تكون. ألم يكتب لك، في ما بعد، إهداء على أحد كُتبه: "ولنا حكايات واحدة في مسرى الحبّ الإلهيّ"؟ "حكايات واحدة"! يا لتلك "المحبّة المجنونة"! أنت كنت تعتقد أنّك قائم في مجلس علم. أليس من أجل هذا قبلتَ أن تأتي؟ لكنّك تدرك، هكذا فجأة، في لقاء، في كلمة، في تصرّف، في طرفة عين، أنّ العلم كلّه، الذي تعرفه والذي يجب أن تعرفه، قائم في المحبّة. تتعلّم، لتُحِبَّ، وَلِتُحِبَّ فحسب. أو تُحَبّ، فتغدو موجودًا فمتعلّمًا. هذا الرجل، الذي يثيره أيّ خطأ لغويّ يشوّه معنى قطعة صلاة في قراءة كنسيّة، يلطف بالدون، ورجاؤه أن يعلو. يخصّص المحتقَرين، ليجملوا. هناك، في تلك الشرفة المطلّة، تفهم، لأوّل مرّة، أنّ الله صنع العالمين، من العدم، لكونه يحبّ. هل يأتي من يحاول أن يرفعك إلى "مرتبته" من حدث الخلق في علاقته مع الآخرين؟ لا يمرّ ببالك هذا السؤال. فأنت تعلّمت ألاّ تسأل ما بات لك واضحًا. أين العالم من تلك الشرفة؟ آه، لو توطّن العالم تلك الشرفة! تخرج، وحلمك أن تحتلّ العالمَ شرفةٌ. أن يغدو كلُّه شرفة. يجب أن ينوجد الناس الساهون عن وجودهم. العمل، الآن، تخاله أسهل. الله أوجد العالم من العدم. وحسبك أن تُحِبّ، ليدرك أهل الأرض أنّ الله برأهم، ليبقوا إلى الأبد. ما هذا الربط ما بين المحبّة والأبد الذي اقتحمك فجأة؟ أنت قرأتَ قول الرسول: "والمحبّة أعظمهنّ" (1كورنثوس 13: 13). وتعلّمتَ على محدّثك أنّها الأعظم، لكون "الإيمان والرجاء" من فضائل السعي في الأرض. ولكنّ الذين يختار اللهُ أن يصلوا إلى الأبد، فالباقي لهم أن يحبّوا فحسب. المحبّة قوت الأبد ونهج مسلكه الدائم. وأن تُحِبّ هو أن تقفز إلى الأبد، وتحيا، في ربوعه، "الآن وهنا". أليست هذه هي قضيّة "يسوع الناصريّ المصلوب" الذي جاء ومات وقام، لنعرف أنّ الله أعدّ لنا أبده؟ وتلك كانت هي عينها قضيّة الشرفة.
كان، في غير لقاء، يدخل من يقول: "إنّ ثمّة زائرًا في الخارج". فيسمع، في معظم الأوقات، الجواب ذاته: "عندي اجتماع الآن، فلينتظر". يا إلهي، يبدو أنّ الرجل قد فقد رشده! هو يمكنه أن يخرجك متى يشاء، وأن يُدخلك، أو يستدعيك، متى يشاء. ولكنّه، يقرّر أن يبقيك. وتبقى. تبقى، وتخفي الفرح في عينيك. سيقفز. تشدّ عليه، ليبقى مستترًا. فإن خرج، تبدو خطيئتك ظاهرة. أنت، إذًا، مهمّ في عيني نفسك. عليك أن تفرح لكون اللقاء يعنيك فحسب. لستَ أنت موضوع الفرح. فما بالك تشدّ على نفسك. عدْ، وتابع أسئلتك. فأنت، هنا، من أجل طلب الوضوح. لا تعكّر صفو "الاجتماع" بأفكارك الغريبة. فـ"من يخطئ بالشوق، يرتكب إثمه بسرعة توازي سرعة الفكر" (القدّيس باسيليوس الكبير). هيّا، عِ. لا تترك موقعك. هيّا، تعلّم، لكي يفرح الله بك، إن أحسنت حفظ ما تسمعه، وقدرت على تمثّله. هناك، في الشرفة المطلّة، تسترجع رفاقك الذين لم تتركهم. هؤلاء كانوا قد أفهموك، جيّدًا، أنّ شأن الكلمة الدائم أن تصير جسدًا. فهيّا، تابع الأسئلة. انفض عنك غبار ترابك. وما أنت تسمعه، التهمه. "كلّ ما تسمعه نافع وجدير بالحفظ". هي فرصة ربّما لن تعود. يجب أن تتعوّد أنّ كلّ لقاء، في تلك الشرفة، هو اللقاء كلّه.
"مَنْ هؤلاء المجتمعون في مدخل الدار؟". "إنّهم زوّار يطلبون أن يروه". "هل لكلّ واحد منهم موعده؟". "لا، لبعضهم فقط". "هل سيُستقبَلون جميعًا؟". "أجل، فقبل الظهر يمكن أن يدخل عليه من يشاء". تسمع. ثمّ تنزل إلى غرفتك، لتتابع القراءة في المجلّد الذي تركته. تقرّر أنت أن تريحه من زيارة إضافيّة. وفي اليوم التالي، تصعد باكرًا. يدفعك شوقك إلى العطر المتضوّع في تلك الشرفة التي تُنعِم. "هل تعبتَ أمس؟". يستوضحك. فتوضح. "لا، يفرحني لقاء الشعب". "تذكّرني بيترو كاهن مدين وحمي موسى" (خروج 18). يبتسم، "لا يمكننا أن نعتمد اقتراحه في كلّ شيء. هنا الشعب يريدون أن يروا المسؤول شخصيًّا. كلٌّ له طلبه. وأنت يجب أن تسمعهم، وتريحهم". "لكنّك تفعل على حساب صحّتك. إنّك تهلك نفسك"! "خير أن يموت رجل واحد عن الشعب". يقولها، وتتلألأ نقطة ماء على جانب عينه. تراها، وتخفض عينيك بسرعة. أنت أبرد من أن تحسّ، أو ترى. هذا القول الأخير أنت قرأتَهُ مرّات عدّة في موقعه (يوحنّا 11: 50، 18: 14). ولكنّك لم تفهم، مرّةً، أنّه يمكن أن يخصّ الناس أيضًا! أقوال في الكتاب كثيرة، أنت تحصرها. وعليك أن تتعلّم أنّ الربّ هو المثال الوحيد في كلّ شيء (1كورنثوس 11: 1). تلملم نفسك، وتحاول أن تطرح بعض الأسئلة التي خزنتها من القراءة. وتنساب الأجوبة بإحكام مذهل. تسمعه، فتحسب أنّك تقرأ في مجموعة كتب في آن واحد. يقول لك كلّ شيء، أو كلّ ما يحسب أنّك قادر على استيعابه. لا يخفي. العلم هنا، كما الشخص، هو للجميع. قبل أن تخرج، تطرح سؤالاً أخيرًا لا يختصّ بقراءتك، بل يتعلّق بالموضوع الذي أقفلتْهُ حبّةُ اللؤلؤ: "كيف تجد الوقت، لتكتب؟". ويجيبك: "أحيانًا أخصّص الوقت، وأحيانًا أفعل في الليل". تسمعه. هو يرمي كلماته ببراءة كلّيّة. ولكنّ ما تسمعه "يجوز في نفسك كالسيف"! في النهار العاديّ، استقبال الناس. وفي عرض النهار، بعض خدم ثابتة، أو مفاجئة. وفي أوقات "الفراغ" وفي الليل، كتابة. هل هذا ما يعنيه وقف الذات لله؟ تخرج، وشعورك بأنّك تخطو في درب ليس لك. "كيف قبلتَ أن تأتي إلى ههنا؟ من أنت، لتأتي؟ أنت، فعلاً، متطفّل. يجب أن تتوّقف عند هذا الحدّ. خير لك أن تفعل الآن". تكلّم ذاتك، وتجد نفسك قاعدًا، في مكانك، تتابع القراءة.
في غمرة انشغالك بالقراءة، يُقرع، في صباح أحد الأيّام، باب غرفتك. ويدخل عليك أحد الموظّفين في دار المطرانيّة، ويزفّ إليك الخبر: "كلّنا مدعوّون، اليوم، إلى مائدة الغداء". فتحاول أن تستوضح. ويأتيك الجواب: "لقد دعا أحدُهم صاحب الدار إلى الغداء، واتّفقا أن يُحضر الطعام إلى ههنا". في الوقت المحدّد، تطوي المجلّد، الذي بين يديك، وتصعد إلى غرفة الطعام. أنت تعرفها جيّدًا. غرفة، هي، في واقعها، جزء من المطبخ، أو امتداد له. فيها طاولة، وكراسٍ عدّة، وبعض أغراض لازمة للطعام وإعداده وحفظه، ومكتبة. كثيرًا ما فكّرت في أنّه لو أراد أحدٌ أن يصف موجودات هذه الدار كلّها، لقال ببساطة: إنّها مكتبة. ليس من جدار، تقريبًا، يخلو من خزانة كتب. إنّها بيت كتب. وتذكر الأمنية التي حفظتَها جيّدًا: "أرجو أن يخلفني من لا يبيع هذه الكتب!". ها هي لحظات، ويجتمع المدعوّون. كان الداعي أوّل الداخلين. والمدعوّون هم جميع الموجودين الدائمين في الدار، بمن فيهم كاهن وشمّاس وخادمة عجوز. صلّى، وبارك الطعام. وقعدوا جميعًا إلى الطاولة، وأكلوا كمن هم أصحاب البيت. كان الحديث، كالعادة، يدور حول الأمور التي تثير صاحب الدار، أو التي تطرح عليه. أنت شريك طعام وفكر. فيشغلك الذين يفهمون كثيرًا والذين تحسب أنّهم يفهمون قليلاً. وخلاصة انشغالك أنّ الكلّ يأخذ، ممّا يسمعه، ما استطاع. لا تستهن بأحد، تقول في نفسك. الكلّ قادر على أن يلتقط النور. ألم تتعلّم أنّ المحبّة هي العلم؟ يكفي الحاضرين أن يعرفوا أنّهم محبوبون، فيفهمون. هل من سبيل أبلغ؟ وهناك، تنزوي مع قلبك. تحاول أن تبقي أذنيك مفتوحتين، لئلاّ يفوتك شيء من الحديث، وتدخل قلبك. وتسترجع، في ذاتك، قولاً للربّ: "وقال أيضًا للذي دعاه (لأحد رؤساء الفرّيسيّين): إذا صنعت غداء أو عشاء، فلا تدعُ أصدقاءك ولا إخوتك ولا أقرباءك ولا الجيران الأغنياء، لئلاّ يدعوك هم أيضًا، فتنال المكافأة على صنيعك. ولكن إذا أقمت مأدبة، فادعُ الفقراء والكسحان والعرجان والعميان. فطوبى لك، إذ ذاك، لأنّهم ليس بإمكانهم أن يكافئوك، فتكافأ في قيامة الأبرار" (لوقا 14: 12- 14). تعود إلى الجلسة التي لم تتركها. وتمعن النظر في المشهد. ويزداد اقتناعك بأنّ كلمة الله هي التي تحكم هذه الدار. كلّ ما في الدار مكتبة تضمّ كتابًا واحدًا، هو "إنجيل يسوع المسيح ابن الله"!
"ألو، من يتكلّم؟". "حسنًا، أرجوك. انتظر قليلاً، لأحوّل مكالمتك". فتحوَّل. ثمّ يستدعيك من استلمها. "قلتُ لك إنّك لست موظّفًا هنا، لتردّ على الهاتف". "أنت، هنا، طالب". طالب! هذا أوّل توبيخ مباشر. يجب أن تفطن، دائمًا، إلى أنّك طالب. كلّ مضيعة للوقت يؤذي طلبك. أنت طالب التعمّق بالكلمة. وتعرف سبيلك إلى ذلك. لازم القراءة. ولازم من يوضحها متى تسنّت لك الفرصة. هذا توبيخ تعوزه. ولكن، هل هو، فعلاً، التوبيخ الأوّل؟، تسأل نفسك. وتسرح في دنيا الكلمات التي تسمعها. كلّ ما يقوله ناطقها هو، في الواقع، "توبيخ". أجل، فأنت لا تقدر على أن تجلس في مجلس الكلمة، وتعتقد أنّ المقصود أشخاص غيرك. هذا أمر مرّ عليك في تلك القاعة القديمة. فلماذا تنساه الآن؟ أنت تحت الكلمة الفاحصة. أنت، ولو نطقتها، تحتها. سرّ الكلمة أنّها فوق الجميع. صحيح أنّك تسمعها، حينًا، وجهًا بوجه. وصحيح أنّك تحملها، أحيانًا، بين يديك. وصحيح أنّك تراها متربّعة على عرش مائدة الله. ولكنّ الصحيح، دائمًا، أنّك، إن لم ترَ ذاتك تحتها، لا تصل إليك. تعبر من فوقك، ولا تدخلك. تذكَّرْ مشهد رسامة أسقف. تذكَّرْ، كيف يُفتح الإنجيل فوق رأسه المنحني. تذكَّرْ صورة المطر في إشعيا. تذكَّرْ كلّ أحاديث العهد الجديد عن الماء. الماء ينزل عليك، من فوق، لينقّيك كلّك. وكذلك الكلمة. هل هذا ما قصده يسوع، في حديثه الأخير، إذ قال لتلاميذه: "أنتم، الآن، أنقياء بفضل الكلام الذي قلته لكم" (يوحنّا 15: 3)؟ هل مرّت ببال الربّ، فيما كان يكلّم تلاميذه، صورة الماء؟ يمرّ هذا كلّه بذهنك. فتلقى ذاتك تحبّ التوبيخ. هذه وظيفة الأب. يا إلهي، ما هذه الصورة الجديدة التي لمعت ببالك؟ الأبُ. مَنِ الأبُ؟ هو من، لكونه يحبّك، يصدقك الحقيقة. هو الذي يريدك، دائمًا، أعظم ممّا أنت عليه. كلّ ما يفعله الأب صنعٌ، خلقٌ. الله لم ينهِ، إذًا، عمل الخلق. الله خلق العالمين بكلمته. ويبقى يخلقها بالكلمة. أنت لم تسمع أنّ أحدًا ذكر أنّ الله وبّخ الأرض، فأخرجت ما أخرجت. ولكن، لِمَ لا؟ إنّها صورة جديرة بالتفكير!
"هل يوجد أحد في الداخل؟". "لا، يمكنك أن تدخل الآن". تفتح الباب، وتدخل. في غير مرّة، تجد، بين يديه، كتابًا، أو جريدة. يراك. يضع ما في يده جانبًا. يباركك. تلثم يمينه. وتقعد في مكانك. هو لا يشعرك بأنّك جئت في وقت غير مناسب، وأنت لا تحبّ أن تشعر! "كيف حالك؟، كيف زوجتك وابنك؟، ماذا تقرأ اليوم؟". أسئلة يستقبلك فيها، فتلقى نفسك مقبولاً. كلّ من يدخل عليه مقبول. فأنت كنتَ قد اقتنعت بأنّ الرجل ليس لنفسه، بل لله ولمن يطلبونه. "زوجتي وابني بخير، والحمد لله". وأمّا ماذا تقرأ، فإلى جانب المعروف، تسمّي له كتابًا أخذتك قراءته منذ أيّام. فتشتعل ذاكرته، ويبدأ الكلام. تسمعه، وعيناك تجولان في الكتب التي قربه. لا تجد الكتاب الذي قلتَ إنّك تقرأه. لكنّه يكلّمك عليه كما لو كان قد أنهى قراءته توًّا. أنت تعرف علاقته بالكتب وبالأوراق. تعنيه كثيرًا. ما زلتَ تذكر يوم استدعى موظّفي الدار جميعًا، ليلومهم على أوراق قدّمت إليه مطويّة الجانب. "أنا أعرف قيمة الأوراق. وعليكم أن تحترموا ما أعرف". يبيّن، دائمًا، أنّه محتاج إلى قراءة الكتب. ولكنّك متأكّد تأكّدًا كاملاً أنّ الكتب تغار من جميع زوّاره، ومن سريره إذا قصده، ليرتاح. تريده لها فحسب. فهي التي تحتاج إليه. فكّرتَ، يومًا، كيف تتصرّف الكتبُ، في أوقات "فراغه"، لتجذبه إليها. تصوّرتَ أنّها تغازله. تتدثّر بوداعة كاذبة. تصطنع الطيبة والموضوعيّة والعمق. ثمّ تقفز إلى يديه كما تفعل المحبوبة التي غلبها الشوق. حتّى الكتب تغلبه! يمسكها، فيغدو لها معنى. تبطل مهمَلة. يقول إنّه يحبّ القراءة في الكتب. هو صادق. ولكنّه ربّما لا يعرف أنّها هي التي تحبّه. هذا كلّه يجول في رأسك، وأنت تسمعه يحدّثك عن الكتاب الذي تقرأه. كنتَ تحسب أنّك فهمتَ ما قرأتَه فيه. ولكنّك تكتشف هناك، في الشرفة المطلّة المفتوحة على الشمس، أنّك كنتَ تحتاج إلى هذه الزيارة، لتفهم. تحسب أنّك تقرأ في الكتاب، وتكتشف أنّك أنت، الآن، أمام الكتاب الصحيح الذي تحتاج إليه، لتنتقم من جهلك، وتفهم.
"عذرًا منك، سأعود". يقولها، ثمّ يخرج، ويحضر، معه، كوب ماء. يقعد في مكانه. ويمدّ يده إلى الطاولة التي قربه. يختار علبة دواء. يفتحها. ويبتلع منها قرصًا، ويشرب قليلاً. ما هذا المشهد الغريب؟ لماذا لم يطلب منك أن تُحضر له ما يشربه؟ الدار هاتفها متشابك داخليًّا، وهو سيّد الدار، فلماذا لا يطلب ما يحتاج إليه من مكانه؟ مَنْ حكم الله أن يكون ألوف الناس طوع أمره، لا يطلب شيئًا لنفسه! "لماذا لم تطلب منّي أن أحضر لك الكوب؟"، تسأله. "لا بأس"، ويكمل الحديث الذي كان قد توقّف! الأجوبة، التي تخصّه، دائمًا مقتضبة. يكمل، وتغرق أنت في بحر أفكارك. تحاول أن تعود. ولكنّ المشهد أقوى. هل درسك، اليوم، مشهد؟ لماذا تتعجّب؟ لقد مرّ عليك، منذ مدّة، مشهد مماثل. فقد رفض أن تأخذ منه جبّته التي كان يرميها على كتفه. كان راجعًا من خدمة كنسيّة. وكنتَ معه. ورأيتَ تعبه باديًا فيما كان ينزل الدرج. مددتَ يدك نحو الجبّة، لتحملها، وتخفّف عنه التعب. يومها، قال لك أمرًا آخر يستحقّ الحفظ: "إنّها رفيقتي منذ ما يزيد على خمس وثلاثين سنة، وهي لا تتعبني". أنت قرأتَ في الأدب النسكيّ أنْ: "سأل راهبٌ الأب بيمن قائلاً: بعض الإخوة يسكنون معي، فهل تريد أن أقودهم، أو آمرهم؟ أجابه الشيخ: لا! أنت تصرّف أوّلاً، وهم، إن أرادوا أن يعيشوا، عليهم تقرير ذلك! فقال الراهب: هم يريدون أن أرشدهم، وأقودهم. فقال له الشيخ: إنّك لن تفعل ذلك البتّة! كن لهم مثالاً لا مشرّعًا". أجل، فالمشهد بليغ. ويكفيك اليوم. تنتظر فرصة انتهاء الكلام، وتخرج. تخرج، ويبقى المشهد يلاحقك. وتستقرّ في صورة السيّد الخادم. السيّد الذي يحبّ، ولا يقبل أن يستغلّ موقعه. السيّد الذي لا يستصغر من كان صغيرًا حقًّا. تمشي. توقف سيّارة، لتستقلّك إلى بيتك. وفجأة، يطرأ ببالك سؤال: هل يرى السيّد ذاته ضيفًا في هذا العالم؟ يا إلهي، السيّد ضيف! وتنقضّ عليك فكرة أخرى: لا، بل غريب. ضيف، أو غريب. وتحار. تتنازع، في رأسك، الفكرتان. أيّهما هو الوصف الدقيق؟ لا تدري. وتأخذك الصفتان. الرجل ضيف غريب. يحيا في الدنيا وحده. هو يؤمن بالإخوة وشركة المؤمنين. هو الذي ألحّ على استعادة بريقها في أزمنة القحط المرير. ولكنّه، فيما يؤمن ويلحّ، "ينزل في أرض الموعد نزوله في أرض غربة". "يقيم في الخيام". و"ينتظر المدينة ذات الأسس التي الله مهندسها وبانيها" (عبرانيّين 11: 9 و10). ومع نفح الهواء اللطيف المتدفّق من نافذة السيّارة، تسمع نفسك تقول لنفسك: تعلّم، إيّاك أن تنسى.
"اليوم ستذهب، معي، إلى عشاء في منزل أحد المؤمنين. فجهّز نفسك، وكنْ، هنا، في الساعة السابعة تمامًا". ساعة مرّت، واثنتان وثلاث. قبل الطعام، وأثناءه، وبعده، الرجل لم يصمت لحظة واحدة. كان إليه أهل البيت والمدعوّون. وكان هو "يخاطبهم بالكلمة". ويطوف بأسئلة طرحت عليه تحليلاً وتوضيحًا. أنت لم ترَ، بعينك الحسّيّة، مفلوج بلدة الصيّادين، كفرناحوم، الذي استوى على إيقاع أمر يسوع. أجل، قرأت عن خبر شفائه (مرقس 2: 1- 12). لكنّك تحسّ به هنا. هذا جديد عليك. لقد أكل الرجل طعامًا على مائدة الذين استضافوه. وأطعمهم الكلمة التي تقيم من كلّ خلع. أكل من الطعام الذي قيل فيه: إنّ "ما يدخل الفم ينزل إلى الجوف، ثمّ يخرج في الخلاء" (متّى 15: 17). وأطعمهم من "الطعام الذي يبقى، فيصير حياة أبديّة" (يوحنّا 6: 27). هناك أيضًا، تذكر قولاً للربّ: "طعامي أن أعمل بمشيئة الذي أرسلني، وأن أتمّم عمله. أما تقولون أنتم هي أربعة أشهر، ويأتي وقت الحصاد؟ وإنّي أقول لكم: ارفعوا عيونكم، وانظروا إلى الحقول، فقد ابيضّت للحصاد. هوذا الحاصد يأخذ أجرته، فيجمع الثمر للحياة الأبديّة، فيفرح الزارع والحاصد معًا. وبذلك يصدق المثل القائل: الواحد يزرع، والآخر يحصد. إنّي أرسلتكم، لتحصدوا ما لم تتعبوا فيه. فغيركم تعبوا، وأنتم دخلتم ما تعبوا فيه" (يوحنّا 4: 34- 38). كيف تتحوّل جلسة طعام إلى مائدة لتوزيع الكلمة؟ هذا، يبدو، سرّ مَنْ أتعبهم حمل الكلمة. عليهم أن يستريحوا بتوزيعها. لا يقدر المتعَب على راحة أخرى. ليس من وسيلة أخرى. الجعبة ثقيلة، ويجب أن تمتدّ الأيدي، لتشارك في حملها. هناك، في ذلك البيت الجديد، تشعر بأنّ الشرفة تنتقل. إذًا، يمكن أن تنتقل. إذًا، تلك الشرفة مكان حمولة متعبة. ولن تقدر على حمل ما فيها، إن لم ترمه في الشوارع والأزقّة وفي بيوت الناس الذين أحبّهم الله منذ البدء. هذا حلم قرأتَ عنه قبلاً: "كيف نذهب إلى جمهور مكثّف مجمّع ضائع، ونفتّته جمهورًا، لنعيده أشخاصًا كلّ منهم دنيا ومصير؟ كيف يصبح كلّ إنسان موسيقى كونيّة، عظيمًا في بساطته، في حبّ يعطيه وحبّ يتلقّاه؟ كان في ودّي أن أحيّي هذا وذاك في الطريق، أن أجذبه إلى حوار، علّه يطوّفني معه شقاءه، وأطوّفه مسيحي. لو أتيح لي ذلك، كم من رجل أو امرأة أستطيع أن أكلّم؟ وإذا ذهبتُ وإيّاهم في حلاوة الشركة، وأسّسنا جماعة تتعايش في متطلّبات الإنجيل، كيف ننشئ العالم كلّه نشأة جديدة؟ هاجسي هو هذا العالم الفاقد جوهر ربّه. أعرف أنّهم كانوا اثني عشر. ولكنّي أعرف، أيضًا، أنّ التاريخ اللاحق لم يكن ذهبيًّا يومًا. الله يعمل من خلال فشلنا، فشلنا هذا الظاهر" (لو حكيت مسرى الطفولة، صفحة 100 و101). الرجل، إذًا، يحيا تحت ضغط التبليغ. هو يؤمن بأنّ الله يعمل "من خلال فشلنا". وكأنّه يريد أن نسمح لله بالعمل فينا، وكفى. كلّ الحياة أن تعطي اللهَ ذاتك. تلك مسألة ممكنة، إن وعيت أنّ الله أعطاك ذاته. وليس في العطيّتين إمكان مقابلة. ففي عِشرة الناصريّ، يدرك المعطي إنّما هو آخذ. هذا سرّ صعب فهمه، ويبدو بسيطًا على الذين يطيعون الله أبا ربّنا يسوع المسيح. كان ذلك العشاء مدًى كونيًّا. كلّ لقاء مدًى. كيف يُختصر الكون في لقاء؟ تلك كانت خلاصة ذلك العشاء.
كما يأسرك الكلام، يفعل الإصغاء أيضًا. ولربّما الإصغاء "أبلغ من الكلام أحيانًا". ما سرّ مَنْ يتكلّم إذا صمتَ؟ أنت قرأت عن فضيلة الإصغاء في بعض مصنّفات النسّاك. ولكنّك، هنا، أمام الفضيلة شخصًا. هل غير هذا مآل الفضيلة؟ لقد سمعتَ، مرّةً، من أحد أصدقائك الكبار عن مَلَكَةِ الإصغاء في هذا الرجل. فذاك، أيضًا، عرفه قبل أن يعرفه. سمع عنه في قاعة أخرى. ودفعته أشواقه المتأجّجة إلى أن يذهب إليه يومًا، ليسمع منه بعض أجوبة عن أسئلة كانت تقلقه. أخذ موعدًا، وفعل. ولمّا دخل عليه، وجد نفسه يتكلّم طوال الليل، ومن انتظر أن يكلّمه، كان يصغي إليه فحسب. أجل، لقد طلب الرسول أن يصغي المؤمن إلى الكلمة إصغاء أشدّ (عبرانيّين 2: 1). وحسبك أنّه يريد أن تُلتزم قراءتها في الكتب، وأن تُطاع في الحياة. ولكن، هنا، ثمّة من يعطي شبابًا يافعين أذنيه وأحاسيسه وذاته كلّها. هل يأتي من قول الرائيّ: "من كان له أذنان، فليسمع ما يقوله الروح للكنائس" (رؤيا يوحنّا 2: 7)؟، تسأل نفسك. أو هل يؤمن بأنّ الإنسان وجه؟، تسأل أيضًا. وترتاح إلى كلا السؤالين اللذين استقرّا فيك جوابًا واحدًا. هؤلاء الشباب، الذين كنتَ تشاركهم في لقاءات تلك القاعة، كانوا يصغون أيضًا. تلك اللقاءات، في واقعها، ملتقى وجوه. يسمَّى أحدهم مسؤولاً، أو مرشدًا، صحيح. ولكنّه يتصرّف كواحد من مجموعة. ليس هو، هنا، أستاذًا في مدرسة. بل يعلِّم ويتعلَّم. مع هؤلاء الشباب، الكلّ يؤمن بالكلّ. ولكن، هنا أيضًا؟! هنا، الأمر مختلف! الشخص مختلف! ولكنّه هو يجعل نفسه واحدًا مع "الأمّة". يرى الآخرين مهمّين، أو مهمّين على الرجاء. هذا من طيّبات التنازل، تقول في نفسك. وتجد نفسك مرتاحًا إلى هذا الفنّ المسمّى الصمت. في بعض المرّات، التي كنتَ تحجّ فيها إلى تلك الشرفة، كنتَ تعرف أنّك تقصد الوجه. الصمت هو الوجه. تريده أن يتكلّم. ولكنّك، متى رأيتَهُ، تشعر بأنّ الرسالة، التي يريد أن يبلّغها، قد وصلت. كثيرًا ما كنتَ تخرج من عنده، وعقلك يعجّ بذكر إتمام تدبير الله الخلاصيّ. أنت صرتَ تعرف أنّ الآباء الشرقيّين يعتبرون الأحداث الخلاصيّة حدثًا واحدًا. فكما تقول: كلّ شيء تمّ في موت المسيح وقيامته، تقول أيضًا: كلّ شيء تمّ في ظهور وجهه، أو في "شعاع مجده وصورة جوهره"، كما يحلو للرسول أن يصف ظهور الوجه (عبرانيّين 1: 3). لقد ذكر العهد الجديد، مرّةً، أنّ بعض اليونانيّين طلبوا أن "يروا يسوع" (يوحنّا 12: 21). كلّ حقيقة الله قائمة في وجه ابنه. لماذا أخذتك ذكرى هذا التدبير؟ لا تسأل. فأنت أخذت تعرف أنّ قصدك أن ترتاح. والراحة نصيبك في الإصغاء من أيّ جهة أتى. والراحة متعبة إذا مرّ ببالك أنّ من يعطيك أذنيه فوجهه، لا يصغي، وفي باله أن يفحصك. بل، لتتعوّد أن تتكلّم. ذاك الوجه معبر إلى الشهادة. وإن كان قوام الشهادة حرّيّة أبناء الله، فأنت، هناك، تتكلّم على كلّ شيء. تتكلّم، ويعطيك وجهه. ولكن، حذارِ والمدح. فإنّك إن فعلتَ، يخفي وجهه عنك. "ليس من مكان، هنا، للمدح"، تسمعُ في الصمت. يصفعك الوجه أحيانًا. يصفعك، ليذكّرك بأنّ المدح يخصّ الله وحده. والله يمدح من يمدح في اليوم الذي فيه "ينير خفايا الظلمات، ويكشف عن نيّات القلوب" (1كورنثوس 4: 5). عليك أن تذكر، دائمًا، أنّ: "كلّ عطيّة صالحة وكلّ هبة كاملة تنزل من علُ من عند أبي الأنوار" (يعقوب 1: 17). يصفعك وجهٌ، ليرفعك إلى الوجه، لتعي لغة ملكوته. لقد روى، مرّةً، بعض رفاق القاعة القديمة حادثة جرت في لقاء خاصّ. قالوا إنّه: "طلب من بعضٍ يتقنون الإنشاد أن ينشدوا له ترتيلة يستهويه معناها. وبعد أن فعلوا، أخذ هو يشرحها لهم. وكانوا هم يعرفون عادته، ويصغون إليه كمن إلى "رجل جعلته نعمة الله جديرًا بالثقة". وبعد أن انتهى من الكلام، انفصلوا جميعهم عنه، ودخلوا في نقاش حول لغة الترتيلة. بعضهم كان يرى فيها خطأ لغويًّا، وبعضهم الآخر كان يراها صحيحةً. وارتفعت أصواتهم، واحتدّت. فجاء واحد منهم، وسأله: ما هي لغة الملكوت؟ أجابه: الصمت!". هل يصغي لكونه يكون فوق؟ هذا سرٌّ اللهُ يعرفه. حسبك أنت أن تعرف أنّه يصمت، لتتعلّم أن تصغي إلى غيرك، وتمجّد الله على خيره، وترجو أن يرحمك، ويقبلك في ربوع ملكوته الأخير.
في الكنيسة، تتعلّم أنّ الذكرى حضور. لا أحد يمكنه أن يقتلع التاريخ، الذي مرّ، ما دام حاضرًا فيك. يبقى ألاّ تقتلعه أنت. يبقى أن تخلص له. تلك كانت فرصة اللقاء بمن يحمل على كاهله ما "سلّم إلى القدّيسين تامًّا" (يهوذا 3). لقد سمعتَ، مرارًا، قوله الدالّ على برّ الكنيسة الواحدة: "أنا أحمل على كتفيَّ أغناطيوس الأنطاكيّ والذهبيّ الفم وباسيليوس الكبير ومكسيموس المعترف وبالاماس". أنت بتّ تعرف أنّ ثمّة من قال، قديمًا، دفاعًا عن الحقّ: "الكنيسة هي الرأي القويم"، أو كما شاع تردادها: "أنا الكنيسة". وهذا شأن يستحقّ الحفظ. فالكنيسة، فعلاً، قد تكون قائمة في شخص. شخص يجيء من إخلاص التاريخ، ويعرف أن يلقاه في الحاضر، ويُلقيه. شخص يحيا "في عيشة راضية. في جنّة عالية. قُطوفها دانية". كيف يُنجب الله من الذين "خصوا أنفسهم من أجل ملكوت السموات" (متّى 19: 12)؟ تلك هي الدلالة الكبرى على أنّ الله حيّ وفاعل في من أسلموا حياتهم له وحده.
هذه قُطوف من ذكريات طالب، قصّته بدأت، يوم عاد إلى منزله، ووجد ورقة على بابه، كتبَ له صديق كبير فيها: "عليك أن تذهب، غدًا صباحًا، إلى دار المطرانيّة". وذهب، ولم يعد.