قَبْلَ أن يعلّم الربّ تلاميذه "الصلاة الربّيّة" (أبانا الذي في السماوات)، كان يصلّي في بعض الأماكن. فلمّا فرغ، قال له أحد تلاميذه: "يا ربّ، علّمنا أن نصلّي كما علّم يوحنّا تلاميذه" (لوقا 11: 1).
أوّل ما يجب أن نلاحظه، في قراءتنا العهد الجديد، أنّ خبر قطع رأس المعمدان لا يقطع ذكره، بل ترينا (القراءة) أنّ أخباره ومآثره تفرض ذاتها، بقوّة، أخبارًا ومآثر تشهد للربّ الذي تنازل إلينا حبًّا. هذه دلالة من الدلالات على أنّ أحياء الله لا يقوى على طيّهم أيُّ شيء. وهذه، تاليًا، من معاني أنّ يوحنّا، شخصيًّا، رجل "لم يظهر في أولاد النساء أكبر منه" (متّى 11: 11). فالذكر، ذكره، لا يبدأ به الناس فقط، بل الربّ نفسه يأتي به، أيضًا، حيث يرى نفعًا في ذلك (أنظر مثلاً: متّى 11: 18، 17: 10- 13، 21: 32).
إلى هذا، لا تذكر الأناجيل أيًّا من الصلوات التي علّمها يوحنّا لتلاميذه. ولكنّنا نعرف أنّ اليهود الأتقياء، الذين تجاوزوا سنّ الثالثة عشرة من عمرهم، كان من واجبهم أن يصلّوا مرّاتٍ عدّةً في اليوم. وفي كلّ مرّة، كان كلٌّ منهم يتلو، أوّلاً، صلاةً قصيرةً ذكرَها سِفرُ تثنية الاشتراع (6: 4- 7)، وأخرى يمجّد فيه الإله الإزليّ سيّد الكلّ وواهب الخيرات والحامي أتقياءه، ويطلب، أيضًا، غفران الخطايا ووحدة الشعب وحضور ملكوت الله. وهذه يجب أن يتلوها بصوت عالٍ، إن في مجمع المدينة، أو في بيته، أو في سريره. هل هذا ما التزمه يوحنّا معلّمًا؟ ربّما. أقول ربّما فيما لا نقدر على أن نتكهّن إن كان قد فعل شيئًا آخر، وفيما الأمر، الذي بنينا عليه هذه السطور، يبيّنه، نظير أيّ رابيّ، يصلّي، ويعلّم تلاميذه أن يصلّوا.
أمّا اللافت، فإنّ لوقا أدرج ما طلبه أحد تلاميذ يسوع قَبْلَ الصلاة الربّيّة. وهذا لا بدّ من أنّه أراد فيه أن يبيّن أنّ ما يعلّمه الربّ يختلف، اختلافًا كلّيًّا، عمّا كان يوحنّا يعلّمه. فأبانا، التي من خصوصيّتها أنّها تدلّ على العلاقة الحميمة التي تجمع الابن بالآب وتتميّز عن كلّ صلاة معروفة بتحرير المصلّي من كلّ انغلاق بانفتاحه على الإنسانيّة كلّها، ليس ليوحنّا أن يعلّمها. وهذا يؤكّده إنجيليّ آخر سجّل للمعمدان قوله: "الذي من الأرض هو أرضيّ / يتكلّم بكلام أهل الأرض" (يوحنّا 3: 31).
ليست هذه هي المرّة الأولى الذي يذكر الإنجيليّون ما يعمله يوحنّا في سياق المقابلة بينه وبين يسوع. عندنا، مثلاً، من المقابلات مقابلة أخرى في موضوع الصوم. وهذه: كان تلاميذ يوحنّا والفرّيسيّون صائمين. فأتى إلى يسوع أناس، وقالوا له: "لماذا يصوم تلاميذ يوحنّا وتلاميذ الفرّيسيّين، وتلاميذك لا يصومون" (مرقس 2: 18؛ قابل مع: متّى 9: 14 و15؛ لوقا 5: 33- 35). ويجب أن نلاحظ، هنا أيضًا، أنّ يسوع قد قال، في جوابه عن نفسه وأتباعه، ما كان المعمدان يعيه تمامًا. قال: "أيستطيع أهل العرس أن يصوموا والعريس (أي الربّ) بينهم؟ فما دام العريس بينهم، لا يستطيعون أن يصوموا. ولكن، ستأتي أيّام فيها يُرفَع العريس من بينهم. فعندئذٍ، يصومون في ذلك اليوم" (مرقس 2: 19 و20). فيوحنّا كان يعي أنّه صديق العريس (يسوع) الآتي، ليقترن بعروسٍ هي شعبه وحده (أنظر: يوحنّا 3: 29).
هل يمكننا أن نعرف شيئًا عن صوم يوحنّا؟ ما نستشفّه من العهد الجديد أنّ صوم يوحنّا كان يختلف عن صوم الفرّيسيّين الذين ذكرهم بعضٌ من الناس في المقابلة التالية المسجّلة هنا. فالفرّيسيّون كانوا يلتزمون ما تقتضيه الشريعة، ويضيفون إليه صوم يومَي الإثنين والخميس من كلّ أسبوع (لوقا 18: 12). أمّا المعمدان، فيخبر الإنجيل عنه أنّه كان لا يأكل (أي لا يأكل اللحم) ولا يشرب (أي الخمر) البتّةَ (متّى 11: 18)، أو "كان طعامه الجراد والعسل البرّيّ" (متّى 3: 4). ويجب أن نذكر، في هذا السياق، خيار يوحنّا أن يحيا في البرّيّة التي اعتمدها، قديمًا، مكانًا موافقًا كلُّ الذين أرادوا أن يبتعدوا عن مغريات العالم، ويسعوا إلى التقرّب من الله. وهذا، خيارًا، كان طقسه الأساس المواظبة على الصلاة والصوم.
إذًا، كان يوحنّا يصلّي، ويصوم. وهذا نقله، علمًا، إلى تلاميذه الذين تحلّقوا حوله. هل يمكننا أن نرى، في هذا العلم المنقول، دفعًا واثقًا إلى لقاء الربّ الآتي؟ أعتقد أنّ الربّ، في كلا الجوابين اللذين تلفّظهما بعد أن ذُكر أمامه ما كان يوحنّا يفعله، أوضح أنّ ما سمعه إنّما هدفه أن يحضر هو، أي يسوع، بيننا "الآن وهنا". فالربّ، في جوابه الأوّل، دعا تلاميذه إلى أن ينادوا الله الآب "أبانا". وهذا نداء جديد يتضمّن إيمانًا بأنّ الابن هو الذي يرمي علينا، بنعمة ظهوره بيننا، وشاح البنوّة. فليس لنا أن نكون أبناء، أي نعرف الله أبًا ونناديه أبًا، قَبْلَ أن "أخلى الابن ذاته آخذًا صورة عبد". وفي جوابه الثاني، تكلّم على أنّه العريس الآتي، ليتّحد بعروسه اتّحادًا أبديًّا. هل نفى الربّ، بقوله، أهمّيّة الصوم؟ لا، بل أعطاه معنى جديدًا أكّد فيه أنّ صوم العهد الجديد يقوم على وعي أنّه أتى وسيأتي قريبًا. ومن قلب هذين الجوابين يجب أن نذكر أن يوحنّا المعمدان نفسه، فيما رأى يسوع سائرًا أوّل مرّة نحوه، دعا تلاميذه إلى أن يلتحقوا به توًّا (يوحنّا 1: 36 و37). الصلاة والصوم، أي صلاة يوحنّا وصومه، ممارسة يجب أن نرى فيها أنّها تستعجل مجيء الربّ. والبرّيّة، التي اختارها يوحنّا موطنًا، تجد معناها في هذا الاستعجال، وتؤكّده.
يبقى أنّ صلاتنا وصومنا، نحن المسيحيّين، يأتي بهما إيماننا بأنّ الربّ قد أتى. هذا، أي هذا وحده، يعطينا أن ننادي الله، بثقة مطلقة، أبانا، ويؤهّلنا لأن نرجو أن يستضيفنا على مائدة عرس حَمَله.