أمور عدّة تدفعنا إلى أن نزيد جهدًا في رعاية كلّ طفل في فروعنا ورعايانا. هذا يأخذني إلى أن أذكر أنّ التيّار النهضويّ لم يعتنِ، في مطلع انطلاقته، بتبنّي تربية الأطفال ورعايتهم. فالطفل لم يشكّل التحدّي الذي شكّله العمل مع البالغين سبيلاً إلى "مصالحة الكنيسة وإصلاحها". غير أنّ هذا لم يدم طويلاً. واندفع الحركيّون، سريعًا، إلى كلّ إنسان نافضين عنهم التمييز بين عمر وآخر.
لِمَ التركيز على رعاية الأطفال اليوم؟
كلّنا نعرف أنّ فروعنا لا تخلو جميعها من "أسرة طفولة". وقد تجد بعض فروع، ولا سيّما إن كانت ناشئةً أو قائمةً في قرى نائية، يقتصر فيها العمل على الأطفال حصرًا. وعلى ذلك، أظنّ أنّنا لم نلتقط كلّنا بأجمعنا، بجدّيّة ظاهرة، نفض التمييز الذي قلت، الآن، إنّ الحركة قد اندفعت إليه سريعًا. ما زلنا، بمعظمنا، كما لو أنّنا أسرى تحدّي العمل مع البالغين. ما زلنا كما لو أنّنا ورثنا هذا الأسر جينيًّا. وهذا لا يؤكّده، فحسب، أنّ أطفالنا، في هذا الفرع أو ذاك، عددهم قليل عمومًا، بل، أيضًا، أنّ القديرين على التربية بيننا يتركون هذا العمل لِمَنْ هم دونهم خبرة. وعلى إحناء ركبنا وقلوبنا لكلّ مَنْ يبذل جهدًا في خدمة الكنيسة، أيًّا كانوا أو كانت، يجب أن نقرّ بأنّ الأطفال الذين يهجروننا لا بأس بعددهم. بلى، إنّنا نرى، ونفكّر، ونخطّط، ونطمح، وننادي. ولكنّ أصوات التغيير، في ظلّ واقعنا، يردّها الصدى عمومًا. ما يبدو أنّ بعضنا يعتقد أنّ تربية الطفل لا تعطيه نتائجَ سريعةً على التعب الذي يبذله معهم. البالغ، إن اعتنق الحقّ، نراه كنزًا ثمينًا. ويبقى عملنا مع الطفل يبدو من النوافل.
أخذني وصف بعض الواقع، وأبعدني، إلى الآن، عن الإجابة المباشرة عن السؤال المسجّل أعلاه. وسأبتعد بعدُ قليلاً، لأذكّر بما أحسبه سببًا وجيهًا دفع الحركيّين إلى اعتبار العمل مع الأطفال تحدّيًا يشبه العمل مع البالغين. وهذا يمكن اختصاره بالقول إنّ الله جعلنا نكتشف أنّ لتربية الطفل موقعين، هما، في حقيقتهما، موقع واحد: كنيسة الرعيّة والبيت العائليّ. وربّما ما أقلق الحركيّين الأوائل أنّ معظم أطفالنا كانوا يتلقّون تعليمًا دينيًّا في مدارس غير أرثوذكسيّة، وتاليًا افتقار الكثيرين إلى أن يربّوا أولادهم كما يليق بإيماننا. كان الأهالي يعمِّدون أطفالهم، وكفى (عمومًا). وحرّكنا أنّ الطفل، الذي نتعهّده صغيرًا، ينشأ على وعي أنّ معموديّته، التي تجعله عضوًا في "جسد المسيح"، يفترض نموّه فيها أن يندمج في حياة الجماعة التي تساعده على تفعيل ما ناله من مواهب تخصّ الكلّ. وكان ما كان.
أمّا الجواب، فيحكمه أمران. أوّلهما أنّنا ورثة الوعي الذي نفقد أمانتنا له إن لم نبنِ عليه. وثانيهما أنّ حال مجتمعاتنا، اليوم، يكاد يُبقي لنا الأطفال (والشيوخ) على أرضنا. فهجرة الشباب، ولا سيّما المتعلِّم منه، في ظلّ ما نشهده في هذه البقعة من العالم، تزداد أكثر فأكثر، وترمينا في حيرة متعبة. هل أريد أن نهرب من مواجهة الهجرة بالعمل مع الأطفال فقط؟ هل أريد أنّ هذا العمل حلّ وحيد للحاضر والمستقبل؟ هل أغيّر شغف الحركيّين بدعوة الشباب (ويجب أن نقول اليوم: الموجودين)، ولا سيّما المثقّفين؟ لعمري، لا! ما أريده أن نجدّ في سعينا إلى أنّ بقاءنا في كنيستنا أمر يطلبه الله منّا جميعًا، صغارًا وكبارًا. ومن هذه الإرادة، التي تلزمنا أن نحتضن الإخوة على غير صعيد (صعيد إيجاد أعمال لهم يقيهم أن يهاجروا، مثلاً)، أن نعمل على إرضاع كلّ طفل، منذ نعومة أظفاره، أنّه مسؤول في كنيسة المحبّة. وهذا، إلى الجهد المطلوب لئلاّ يبقى أيّ طفل في رعايانا بعيدًا من نهضة كنيسته، يفترض أمورًا عدّة، منها:
أوّلاً- أن يكون القادة الحركيّون، الذين يعملون مع الأطفال، أشخاصًا ذوي خبرة ظاهرة تؤهّلهم للتأثير، إيجابًا، في مَنْ يسعون إلى تربيتهم، إن في اجتماعات فرقهم، أو في رعايتهم اليوميّة. وهؤلاء القادة، إن لم يكونوا موجودين هنا وثمّة، أن نعتبر أنّ إعدادهم هو من أولى أولويّاتنا اليوم.
ثانيًا- (من صميم الأمر الأوّل) أن نسعى إلى أن تكون لغتنا الإرشاديّة (وما تفترضه من صوغ برامج جديدة توافق الهدف الذي نطمح إليه في هذه السطور) قادرةً على تنشئة أشخاص يؤمنون بأنّ كنيستنا مكانٌ ثابتٌ لهم، ليقدّموا لله، الآن ومتى كبروا، شهادةً راضيةً على أرضنا.
ثالثًا- أن نؤلِّف، في كلّ فرع، هيئةً، تضع لذاتها إيقاع لقاءاتها، مسؤوليّتها أن ترعى أسرة الطفولة خصوصًا (والأفضل: أسرة الاستعداديّين أيضًا). هيئة، يرأسها مَنْ يراه الإخوة جديرًا بهذه المسؤوليّة، تضمّ، إلى مسؤول أسرة الطفولة، إخوةً حركيّين أكفاء، وآخرين ذوي خبرة يغارون على كنيسة الله. على أن يسمح مجلس كلّ فرع لهذه الهيئة، فيما تنسّق معه، بأن تقرّر ما تراه مناسبًا.
أمّا ما يعنيني استرجاعه بشدّة أخيرًا، فهو أنّنا، عندما قرّرنا أن نجمع الأطفال في فرق محدّدة أسبوعيًّا، لم يكن قصدنا أنّ هذا اللقاء، على أهمّيّته القصوى، يكفي، ليقود أطفالنا إلى برّ الوعي. هذا، إن اكتفينا به، ربّما لا يفترق كثيرًا عن أيّ حصّة تعليم دينيّ يتلقّاها طفل في مدرسة مسيحيّة. نحن مربّون. ولربّما التربية من أعلى الصفات التي يمكن أن يُعطاها مَنْ يسهم في رعاية الأطفال. والتربية، تعهّدًا موصولاً، تفترض أن نقارب كلّ طفل خارج اجتماعه أيضًا. فما لا يفوت مربّيًا واعيًا أنّ الطفل، الذي تكلّمه في اجتماع محدّد، إن لم تزره باستمرار وتقضِ وقتًا معه (أي تعرفه حقًّا)، وتعرف لا سيّما عاداته ومشاكله، فلن تكلّمه هو. نحن، عادةً، نستصغر الأطفال (أرجو أن أكون على خطأ). ويجب أن نكسر هذه العادة التي، إن كسرناها، فسنكتشف كم أنّ الأطفال كبار فعلاً. لا، ليس العمل مع الأطفال تقلّ أهمّيّته عن العمل مع البالغين. هم، أيضًا، كنز، إن خصّصناه بالاحتضان، يغنينا كثيرًا.