لا يأتي المرء من اللامكان. ولكن، ثمّة أمكنة، حين نجيء منها، تتّسع للعالم وما يضمّه من التماعات!
كذلك إنجيل يسوع، كما يبسطه إيليّا متري، هنا، صفحةً بعد صفحة، وفصلاً تلو فصل، أو كما يتبسّط فيه، في كلمات مهجوسة بالهمّ التربويّ تتفجّر من قلبه والعقل، وتنسكب على مذبح أحد أولاده الذكور.
بلى، بلى! المسألة كذلك، ولا لبس فيها. ولا فسحة، هنا، لأجنحة الخيال الأدبيّ، ولا لحيل الرواة الأسلوبيّة. المكان مغرق في واقعيّته، في وضعيّته. فالأب بالجسد يتوجّه إلى ابنه بالجسد. ومن كلماته يطلّ الوالد الإنسان الذي يفرح ويتوجّع، يزهو ويُحبَط، يتوجّه بالنصيحة كَمَنْ خبر الحقّ في الكتب المقدّسة، ثمّ ينكمش خشية أن تجرح بلاغةُ المعرفة نفسَ الصبيّ الطريّة. إنّها، عن حقّ، "أوراق خاصّة"، لا بل ممعنة في خصوصيّتها. فالمرء لا يأتي من اللامكان، ولا سيّما حين يكتب. إنّه، إذا جاز القول، مكان الأب إيليّا "الأوّل": البيت، العائلة، الصبيّ حين ينكسر حيال مرض أُمّه، حين يتشاجر مع أخيه، حين يسهر ورفقته حتّى الصباح، ثمّ يأتي إلى القدّاس الإلهيّ منهوكًا، ولكنّه يأتي. ليس عبد أفضل من سيّده! أبونا إيليّا يعرف ذلك. فإذا كان الربّ "نسج أمثاله من خيوط هذه الحياة"، فإنّه هو، أيضًا، ينسج أوراقه الخاصّة من شجون يوميّاته مع ولده. المنطلق، إذًا، هو الخاصّ. ولكنّ الخاصّ، في هذه السطور، مفتوح على المدى الرحب، يتّسع للعالم وما ضمّ. فالحكمة المترسّبة، في هذا السفر، ترسم معالم التزام مسيحيّ عموميّ، يقدّه متري من الكتاب العزيز وتراث الكنيسة الشرقيّة، في كلام يمسّنا اليوم وهنا، أو يطلّ على الآتيات، ويسعى إلى تشكيلها بالمسيح. ولئن جاء هذا الكلام في سياق بيروت ما بعد الحرب الأهليّة، وما يعتلج فيها من عجز السياسة وشراسة الفقر، إلاّ أنّ المدينة المتوسطيّة تصير نموذج المدينة العربيّة المشوّهة، ويضحي شبابها صورةً عن الإنسان في هذا الشرق الباحث عن هويّة، وعن حياة.
قد يقول قائل: هذا كتاب في التربية يُرصف إلى جانب آلاف المصنّفات التربويّة التي دبّجها البشر منذ أقدم العصور. فما الجديد؟ الحقّ أنّ الكتاب، في نوعه الأدبيّ الصرف، ليس مصنّفًا نظريًّا في التربية، بل هو مزيج من اليوميّات والوجدانيّات وأدب الرسالة وشرح الكتاب المقدّس. ولكن، مَنْ قال إنّ المغامرة التربويّة انتهت حتّى نزجّ بكتب التربية في رفّ مكتبة منسيٍّ لا نرجع إليه إلاّ لمسح الغبار؟ أليس أنّ تقادم الأزمنة لم يَزِدِ اللعبة التربويّة إلاّ آنيّةً واتّساعًا وتعقيدًا؟ وتتضاعف الصعوبة في جسم كنسيٍّ ينبثق نسغ الحياة فيه من التلمذة المتواترة، إذا هو رام ألاّ يتآكله الجمود. هذا يفضي بنا إلى مكان الأب إيليّا "الثاني" الذي منه تجيء الأوراق الخاصّة، ولعلّه مكمن الجدّة في مداها الأوسع. فإذا كانت التربية، من حيث إنّها علم، تستند إلى التراكم وتعيش من النقد وتنبني على التصحيح، فإنّ الهاجس التربويّ، في هذه السطور، همّه الأوّل أن يستقرئ إنجيل يسوع، فيصبح هذا الإنجيل منهل الإيمان ونبراس المسلك. وعند الكاتب، التربيّة، لا لفظًا فحسب، بل مضمونًا وفعلاً أيضًا، ترتبط بالربّ، وعمادها المحبّةُ، الوصيّة القادرة على شفاء العالم وخلقه من جديد: "أُسلوبنا أنّنا نشفي العالم بفضائل يسوعنا".
هذا المكان "الثاني"، ما هي خطوطه الكبرى؟ لا نيّة عندي أن أستبق، أو أُفسد على القارئ متعة القراءة. ولكن، يطيب لي أن أُشير إلى أنّ الرؤية الإنجيليّة، التي يقدّمها أبونا إيليّا في أوراقه هذه، متأصّلة في استقامة الرأي، أي في إخلاصها لتجسّد الكلمة وموته وقيامته، وللطريقة التي عبّرت فيها الكنيسة الشرقيّة عن هذا كلّه في لاهوتها وليتورجيّتها وأدبها النسكيّ. ولأنّها كذلك، فهي أيضًا، وبالقوّة ذاتها، منفتحة على البشر جميعًا وعلى الإنسان الفرد، كائنًا ما كان انتماؤه أو عرقه أو دينه. فالربّ الذي هو المربّي، كما رأى إليه كليمنضس الإسكندريّ، "لا يرضيه أن نميّز بين وجه ووجه، دين وآخر". وبين دفّتي هذا الكتاب مقاربةٌ للتربية من زاوية الإنجيل لا تخشى الفكر، ولا تصطكّ من قدرته النقّادة: "نحن، يا بنيّ، لا يعيبنا أن نفكّر، أن نسأل، وأن نعيد أسئلتنا من جديد. ما يعيبنا ألاّ نفكّر". وهي مقاربة لا تتراجع، في أيّ حال من الأحوال، أمام الثقافة، بل تتوسّلها طمعًا في العمق وتبليغ الإنجيل على أفضل صورة، لأنّ "التفاهة لا تنقذنا، ولا تنقذ أحدًا". وثمّة مطرح، في هذه السطور، للجرح الإنسانيّ، وللأسئلة المفتوحة على اللانهائيّ، ولا سيّما ما يتعلّق منها بالمرض والموت. لكن، يزيّن لي أنّ أبلغ ما في التصوّر التربويّ، الذي تقدّمه الأوراق الخاصّة، هو تشديدها على الحرّيّة التي الله واهبها. فالمسيحيّة، على تعبير الكاتب، "مذهب حرّيّة". وهَمُّ المربّي أن تؤول حرّيّة مَنْ يتربّى إلى الطاعة لله، من دون أن تتحوّل إلى قيد يكبّل صاحبها بنـزق مَنْ يتربّى عليه وأهوائه.
ينثر أبونا إيليّا، في أوراقه الخاصّة هذه، حكاياتٍ كثيرةً يستعين بها على تبيان أفكاره وترسيخها في ذهن ولده، وفي قلبه. سيكون للقارئ، ولا شكّ، موعد مع هذه الحكايات وما تنطوي عليه من أصيل الخبرة الإنسانيّة والدينيّة. والحقّ أنّ التربية بالحكايات وسيلة قديمة جديدة ما برحت تثبت جاذبيّتها وأثرها في النفس. ألم يسرق الناصريّ قلوب البشر بحكاياته عن الحقول وأشجارها وزنابقها وطيورها وزُرّاعها؟ بيد أنّ الحكاية الكبرى، في هذا النصّ، هي المخاطَب ذاته. وعنه يقول أبوه إنّه يروي عن الخير الذي فيه بشغف، وإنّه، رغم هفواته التي هي هفواتنا جميعًا، ما زال يستحقّ أن يروى عنه.
ولعمري، هذا كتاب يستحقّ أن يُقرأ!
أسعد قطّان
مونستر (ألمانيا) ٨/٨/٢٠١١