22سبتمبر

درب الجِدّة

كلّ خدمة يفترض وعيُ منفعتِها تشجيعًا، أي إقرارًا بأنّ الله قادرٌ على أن يبيّن مجده في كلّ الذين يدركون عريهم ومحدوديّـتهم، وتاليًا قبولاً راضيًا أنّه، بما وَهَبَنا من نِعَمٍ، ينفعنا بعضنا في بعض.

عندما قال كتابنا في مسيح الله: "القصبة المرضوضة لن يكسرها / والفتيلة المدخّنة لن يطفئها" (أشعيا 42: 3)، أراد، في كلام دقيق، أنّ ربّنا هو ربّ التشجيع دائمًا. هذا لا يغيّره أن يرى بعضٌ أنّ القول يبيّن طول أناة مَنْ يقصده. فالربّ لا يصبر عبثًا، بل، فيما يحترم حرّيّتنا، يريدنا أن نقوم إلى ما يعرف أنّه جعلنا عليه. وكلّ هذا تشجيع. الربّ العارف يريدنا أن نعرف أنّ الإنسان يحمل ما يجعله أفضل ممّا هو عليه. بلى، يمنعنا استنادُنا إلى الواقع من أن نخفي سقطاتٍ مُرّةً تضرب عيوننا وآذاننا، ليل نهار. ومن دون أن نلغي الواقع، يبقى الله يلزمنا أن نرى إلى الخير الذي وضعه في الناس، وأرادهم أن ينمّوه كثيرًا. وفي تراثنا، هذا يحدث بالنعمة دائمًا. ليس من إنسان شيئًا بحدّ ذاته. كلّ إنسان ممكن أن يكون كلّ شيء إذا جاء من الله، ونال تشجيعًا حارًّا من إخوته، تشجيعًا يقول، ببلاغة، إنّهم إليه في غير حال.

هذا، في الحياة الكنسيّة، لا يحتمل أيّ استثناء. ولربّما خيرُ ما يجب أن نضعه نصبَ أعيننا، أبدًا، وضع أولئك الإخوة الذين يظهرون أنّهم لمّا يرتقوا إلى برّ الالتزام الحارّ والنافع (الجدد وَمَنْ لمّا يُبدوا التزامًا لافتًا). وهذا، الذي يطلبه الله لا سيّما من الواعين في الجماعة النهضويّة، لا يتحقّق حقًّا إن لم يحيوا على ذكر أنّهم ما كانوا شيئًا لولا أنّ إخوتهم قد عضدوهم. ولست، في قولي ما كانوا شيئًا، بمستغرقٍ في الماضي كلّيًّا. فنحن جميعًا، أيًّا كنّا، إنّما نحيا، دائمًا، بفضل حَضن الإخوة وتشجيعهم.

يمكنني أن أتصوّر أنّ بعض الذين نهجهم أن يقسوا على سواهم، أو الذين يعلّون رؤية الأخطاء التي يرتكبها الآخرون، يعتقدون أنّ هذه السطور تساوي بين الحقّ والباطل!، أو، بكلام أخفّ جرحًا، لا تعير أنّ التربية تحتمل قسوةً أحيانًا. وهذا غير صحيح. ليس غير صحيح لكونه، فقط، موقفًا متسرّعًا لا يأخذ في الاعتبار أنّ الوعي مشروعُ عمرٍ لا يخمّن بنحو، بل لكونه لا يأخذ، مثالاً لعلاقتنا بالآخرين، الربّ الذي قال فيه كتابنا إنّه "صديق للجباة والعشّارين" (لوقا 7: 34). وعندي، ما يمكن أن يُحسب فضيلةً في كلّ مَنْ يأخذه التزام الحياة الكنسيّة من دون أن يأخذه وعي حقّها كلّيًّا (الآن)، أنّه قائم في مجلس الوعي. هذا ليس فيه تفاؤل هشّ، بل عصب تعليمنا عن الرجاء الذي هو عصب تعليمنا عن التربية. كلّ كلام، لا يعلّي أنّ التربية رجاء، كلام أعوج. وما من مَثل على ذلك يفوق بلاغة "مَثل الزارع".

لن أقدّم، هنا، شرحًا لِمَثَلٍ كثيرون يقدرون على شرحه خيرًا منّي، بل كلّ ما سأفعله أنّني سأقتبس منه أنّ ما من مزارع، في الأرض، يمكنه أن يضمن نتيجة زرعه. يزرع، ويرجو، هذا كلّ ما يمكنه فعله. بلى، يسهر على أرضه. ينقّيها من كلّ شائبة يعرف أنّها ستعرقل نموّ زرعه. وعلى ما يفعله، يرجو، أي ينتظر. لن نجد مزارعًا واحدًا، في الكون، يشترط على "أرضه"، ليزرعها، أن تؤتيه ثمارًا "مئة ضعف". هذا غير موجود. الموجود أنّه يزرع، وينتظر. وهذا، إذا أتينا منه إلى سياقنا، يحضّنا على أن نؤمن بفعل النعمة دائمًا. وإن صدم عينينا فشل (مفاجئ!)، أن نضع أنفسنا أمام كلّ فشل (مفاجئ!)، أي أن نرى أنّه فشل يخصّنا. نحن، عادةً، ميّالون إلى أن نحاسب سوانا على تقصيره، على فشله، على أنّه لا يرتقي إلى ما نريده منه (أو إلى ما يريده الله منه). وهذه عادة نعرف أنّها ربّما لا تؤثّر في سياق ما يجري. وما يجب أن نعتاده أنّ الناس، أحرارًا، ينمون بموافقة النعمة. وهذا، الذي لا يمنعنا من أن نقول حبّنا للإخوة ببلاغة المزارعين، يجب أن يعلّي عندنا التشجيع، ولا سيّما استمطار النعمة.

عندما ذكرت أن نذكر عضد الإخوة الذين تعبوا علينا، لم أقصد أن نمجّد بشرًا، بل نعمة الله التي نالها بشر. وهذا يحدّد كلّ سلوك يُنتظر أن نكون عليه دائمًا. لم يمنحنا الله وعيه، لنضرب الإخوة بكلمات سوداء ترميهم في ظلّ اليأس. لقد شهدتُ أقوالاً قاسيةً عديدة، أجفلت كثيرين، كان بإمكانها أن تخرج بأسلوب آخر قد تكون له ثمار أخرى. لا تردع القسوة الكثيرين. ما ربّما يردعهم أن يرونا نقسو على أنفسنا فيما يأخذنا اللطف بالكلّ. هذا أسلوب لا يحاكيه أسلوب. فنحن لسنا سوى بشر. نحن بشر أُمرنا بأن نرى أنفسنا "خدمًا لا خير فيهم" (لوقا 17: 10). وعندي، إن كان ثمّة موقع يشرّع القسوة، فإنّما هو موقع الأبوّة. مَنْ يَرَكَ تسعى إلى خيره كما لو أنّك أبوه، يقبلْكَ متى كنتَ ليّنًا ومتى شددت. لقد قال الله الآبُ مرّةً: "هذا ابني الحبيب الذي عنه رضيت، فله اسمعوا" (متّى 17: 5). أن تكون أبًا، يعني أن تكون ابنًا لله. ولست أنت مَنْ تحدّد كونك ابنًا، بل الله يفعل. إن رآك الله غارقًا في تشجيع جماعة الإخوة، أي مستعدًّا لأن تموت حبًّا بهم وبخلاصهم، أي تفضّلهم على نفسك، فلا بدّ من أن يطّلع من سمائه، ويقول لهم فيك بقوّة الآب العارف ابنه: "له اسمعوا".

حتّى لا يتحوّل حقّ الله إلى لُعيبة في أيدينا، ليس لنا سوى أن نرى إلى ذاك الذي أحبّنا فيما نحن خطأة وغير مستحقّين، ونقتدي به. فالحياة الكنسيّة هي حياةُ جماعةٍ الربُّ مثالُها في كلّ شيء. إن فهمنا هذا حقًّا، فلا بدّ من أن يعبّد ربّنا لنا، ولكلّ مَنْ جعلهم إلينا، درب الجدّة الذي يفرح السماء التي وهبتنا كلّ منفعة، لننتفع، وننفع.

- مجلّة النّور، العدد الخامس، ٢٠١٢
شارك!

جميع الحقوق محفوظة، 2023
Skip to content