المسيحيّة، التي قامت على بشرى الفرح، تقوم، دائمًا، على بشائر الفرح. وهذه، التي تولدها البشرى السارّة في تاريخنا، إنّما تولدها، لنعي أنّنا في قبضة إله "أحبّنا، وغسلنا من خطايانا بدمه". ليس من فرح آخر مهما تعدّدت "أفراح" أهل الأرض، وتنوّعت. "فالمسيح قام، يا فرحي"، نلقاها ذاتها، إن كنّا مؤمنين، في كلّ مطلاّت تاريخنا النيّرة.
هذا لم يكن لنا أن نعيه البتّة، لولا أنّ الله نفسه قد تحنّن علينا في يفعتنا، وأنقذنا من حياةٍ كانت تخدعنا بأحلامها الواهية، ووضعنا على دروب إخوة جعلهم لنا معبرًا إليه. فهؤلاء أرادوا لنا أن نسعى إلى أن ننقذ قلوبنا من البرد بدفء مجاورة كلمته ومعانيها المبرورة وروعة أخباره الأخّاذة التي تنبئنا بجديده المذهل.
أخبرَنا، في مطلع التزامنا، الإخوةُ عن رجلٍ كانت له مكانته العالية في بلاد التصقت أخبارها بمكاسب لم نكن نحسن وصفها بـ"الزائلة". قالوا عنه إنّه رجع، ليخصّص نفسه لله. أي قالوا: "ترك كلّ شيء"! كنّا قرأنا، مرّات عدّة، خبر ترك التلاميذ الأوّلين. وكان بعضنا ما زال يعتقد أنّ هذا يخصّهم وحدهم! ولكنّ خبر هذا الترك لوّن عيوننا بمفاهيم جديدة. لم يسأل أحدُنا: لِمَ؟ ليس لأنّنا كنّا نفهم جميعنا، بشكل نهائيّ، أنّ الله يستحقّ أن يهبه الناس حياتهم، بل لأنّنا كنّا، بمعظمنا، نعتقد أنّ الإنسان حرّ في خياراته. فأخذَ معظمَنا الخبرُ، وصدمنا في آن واحد. أخذَنا، لما فيه من جرأة نادرة. وصدمنا، لأنّنا، بمعظمنا، كنّا نطمح إلى أن نحوز بعض ما تركه ذلك الآتي الجديد. فلملمنا صدمتَنا، وأخذ بعضُنا يسأل عن تاريخ الرجل. وعرفنا أنّه ينحدر من لهب تيّار لم يكن قد أحرقنا كلّيًّا بعدُ. باختصار، كان الخبر أقوى من إدراكنا. وباختصار، كان فصحيًّا بامتياز.
ثمّ أخذْنا نلتقي به في لقاءات كان ينظّمها تيّارنا النهضويّ. وخبرْنا أنّ الرجل، الذي ترك خليجه، لم يَخلع يدًا من طاعة. ولهذه اللقاءات سحرُها. يكفي أنّها تضمّ شبابًا كثيرين يجمعهم إصرار واحد على محبّة الله ومصالحة كنيستهم وإصلاحها. هل جعلته هذه اللقاءات، وما يستتبعها، يبكي على تاريخ مضى بعيدًا منها؟ ليس، هنا، موضع الإجابة. هل ما رأيناه فيه من حبّ لنا وعطف بنا وحماسة تريدنا أعظم هو تعويضٌ من بُعْدٍ جارح؟ ليس، هنا أيضًا، موضع الإجابة. فأنت يعنيك ما صرتَ تراه. ويجب ألاّ تسقط في فحص ما لستَ تراه. وما صرتَ تراه هو الحبّ، الحبّ كلّه. ولربّما السؤال المحيّر، الذي طرحناه على أنفسنا حينها، كان: كيف يبقى على الحبّ والفهم مَنْ غرّبته ظروف حياته بعيدًا؟ هذا سؤال لا يمنعنا من أن نجيب أنّ الحبّ لا يترك مَنْ لا يتركه. ليست مواقع الأرض هي التي تحدّد أين يستوطن القلب. فهناك قوم أدركوا أنّ اللهَ وطنُهم. ليست هذه دعوة إلى الهجرة، بل إلى الثبات في محبّة الله أينما حللنا أو نزلنا. إنّها دعوة إلى أن تبقى "المحبّة الأولى" روح حياتنا. إنّها دعوة إلى التوبة إن مرّ ببالنا أنّه يمكننا أن نعيش بعيدًا من وجوهٍ رسمَ اللهُ حياتَنا في استمرار مواجهتها.
ليس لي أن أهتك المروءة. لكنّني خبرت من أخبار متعاقبة كانت تصل إلينا أنّ إخوة كثيرين كان كلُّ واحد منهم يذوق، شخصيًّا، محبّة مَنْ أتاهم جديدًا. وهل الحبّ سوى شخصيّ؟ يكفي أن يعرف أنّك عضو في التيّار النهضويّ حتّى يندّي برّيّةَ قلبِكَ بعطر محبّته. هذا لم يرافقه أنّ أحدًا منّا قد شعر بأنّ الرجل يميّز بين وجه وآخر. فَمَنْ يحبّ، لا يسقط في تمييز ليس له أن يسقط فيه. مَنْ يحبّ، يأتِ من الله الذي حكم تراثُنا أنّه "يشرق شمسه على الأشرار والصالحين". مَنْ يحبّ، يرمِ عليك أنوار السماء، لتلتحف بها، وتستضيء. مَنْ يحبّ، يطرِّ قلبك، لتعرف قلبك موطنًا لله وشعبه أيًّا كانوا. قالوا، مرّةً، إنّه التقى بشابّ وفتاة قادتهما ظروفهما إلى أن يقضيا أسبوعًا، بعد زواجهما، في قريته الوديعة، "دوما". كان هو وزوجته في السيّارة. فرأى الشابّين يمشيان على الطريق جنبًا إلى جنب. فعرفهما. فأوقف محرّك السيّارة قربَهما، وسألهما بلطف ظاهر: "ماذا تفعلان هنا؟!". فأخبراه. "إذًا، يجب أن نحتفل بكما. نحن بانتظاركما، غدًا، في منزلنا على الغداء". وتمّ الغداء. وكان سخاؤه يقول، صراحةً، قصّة حبٍّ لا تنتهي. فالأب أنطون لا يعوزه سوى أن يعرف أنّك حبيب الله حتّى يحبّك، ويبذل من أجلك "العتيق والجديد".
سيبقى الله إلى اليوم الأخير يلاقينا بمن أحبّوه، وأخلصوا. وسيبقى هؤلاء زاد قلوبنا، لئلاّ يسرب منها أنّ "المسيح قام".