22مايو

جنّة الصدق

دعوة المسيحيّ الدائمة أن يصغي إلى الربّ، ويحيا بموجب "ما يخرج من فمه"

تذهلك الحكمة إن أتتك من أفواه كنتَ تعتقد أنّها "بعيدة". فأنت، إن ربيت على حكمةِ إخوةٍ تعنيهم نهضة الكنيسة، يعود لا يعنيك شيء مثلما يعنيك ثراء الكلمة! ويأتيك، بجديده الباقي، مَنْ تثق، ثقةً كلّيّة، بأنّه يحبّ إطار تربيتك الفذّ، ويرغب في أن يقبله القاصي والداني. فتثبت على أنّ الله، الذي قاد شعبه القديم في الصحراء، ما زالت له علاقاته بصحارى الأرض، حتّى لا يبقى تائهٌ بعيدًا من جنان خلاصه.

في حديثٍ التصق بذاكرتي، صَدَقَني أخٌ، لم يكن لتربيتنا النهضويّة فضل مباشر عليه، بقوله: "ما من أمر يرعبني كما أن يكذب إنسان (لم يحدّد دينه أو مذهبه أو موقعه في الجماعة الكنسيّة). الكذب نبعُ كلِّ خطيئة. ألمْ يقل الربّ، عن الشرّير، "إنّه كذّاب وأبو الكذب" (أنظر: يوحنّا 8: 44)؟ إن سرق أحد، يكذب، ليخفي سرقته. وإن زنى، يفعل أيضًا. وإن كذب، يكذب. كلّ خطايا الأرض يحرّكها الكذب"!

أعجبني هذا الكلام. ولا أقدّم نفسي إن قلت إنّني، عالمًا بقول الربّ إنّ الشيطان "هو الكذّاب"، لا أعلم كيف سها عنّي أن أتعطى، (قَبْلَ هذا الحديث)، أنّه أبو كلّ كذبة، أصغيرةً كانت أم كبيرة!

معظمنا يعلم أنّ تراثنا الكنسيّ اعتبر أنّ "الكبرياء هي أمّ الخطايا"، أي نبعها كلّها واحدةً واحدة، أي هي أمّها وأبوها. ولكنّ هذا الرجل، بذكره قول الربّ عن الشيطان إنّه "كذّاب وأبو الكذب"، أراد أن نعلم، (أو أرادني أن أتعلّم)، أنّ الكذب يمكن أن يكون مصدرًا أيضًا. لا يمكنني أن أعلم إن كان الربّ يسوع، في قوله المذكور، قد مرّ بباله ما قالته "الحيّة" قديمًا في الفردوس. لكن، لِمَ لا يكون قد مرّ؟ فالشرّير شأنه أن يفصلنا عن خلاصنا. وسبيل هذا الفصل أن يكذب علينا، ليحقّق مراده، أو لنغدو نشبهه.

لنعدْ سريعًا إلى ما جرى في الفردوس قديمًا. إذا راجعنا كلمات إبليس الأولى، فيبدو لنا، جليًّا، أنّ من مخالفاته الحقّ كان قوله للإنسان الأوّل: "الله عالم أنّكما، في يوم تأكلان منه (من ثمر الشجرة التي في وسط الجنّة)، تنفتح أعينكما، وتصيران كآلهة تعرفان الخير والشرّ" (تكوين 3: 1- 7). معظمنا يعرف أنّ الله قد برأ الإنسان، ليحيا إلى الأبد. لم يكن قرار الله أن يموت الإنسان. لكنّ الشرّير، الذي استدرج الإنسان إلى أن يخالف ما أُوصي به، هو الذي وضع في أذنيه ما يميته. لا يتحمّل إبليس أن تُطاع كلمة الله. وكانت الخطيئة، التي استتر بها، هي الكذب. صحّ، إذًا، ما قاله الرجل. فإنّنا قد انفصلنا عن الله يوم صدَّقْنا "نبعَ الكذب".

لا يليق بنا أن نستغرق في الكلام على الشرّير الذي زادته الأيّام انشغالاً في بثّ الكذب ونشر "ثقافته" العفنة. يكفي أن نؤكّد أنّ تعليمنا الكنسيّ رأى أنّ إبليس قد سقط من موقعه، حيث كان ملاك نور، بسببٍ من كبريائه اللعينة (قابل مع: إشعيا 14: 12). وبهذا التأكيد، يبدو التداخل ما بين الكبرياء والكذب واضحًا مثل الشمس. لقد فصلت الكبرياء ملاكًا عن الله، وَفَصَلَنَا عنه تصديقُنا كذبه المغري.

ثمّ جعلني كلام الرجل أقرأ، بانتباه جديد، ما قاله بولس الرسول في رسالته إلى كنيسة كولوسّي، أي: "ولا يكذب بعضكم بعضًا، فقد خلعتم الإنسان القديم وخلعتم معه أعماله، ولبستم الإنسان الجديد، ذاك الذي يُجَدَّد على صورة خالقه، ليصل إلى المعرفة" (3: 9 و10). كانت قراءتي، التي تستند إلى فكر كنيستنا، أنّ هذا الكلام يتعلّق تعلّقًا مباشرًا بالتعليم عن المعموديّة. وعلى التزامي هذه القراءة، كثيرًا ما حيّرني أنّ الرسول، الذي مهّد قوله بتقديمه لائحةً طويلةً بالمنكرات، قد ختم كلامه بمنعنا من الكذب. لِمَ، كان سؤالي لنفسي، لِمَ اختار الرسول الكذب في نهاية هذه اللائحة؟ هذا لا يعني أنّني قبلت، يومًا، أنّ ثمّة خطيئةً أعلى من خطيئة. فتراثنا، الذي لا يميّز بين خطيئة وأخرى، يرى إلى كلّ خطيئة أنّها "الكلّ" (كولوسّي 3: 5- 9). لكنّ الرجل، الذي التقيتُ به، أعطاني أن أوضح لنفسي تعليم كنيستنا عن المعموديّة وفق ما قاله بولس الرسول هنا. فبولس، كما يبدو ظاهرًا، وَقَفَنا عن خطايا قمّتها الكذب. وتعليله أنّ الله قد خلّصنا من ثيابنا الرثّة، وجدّدنا بنعمة مسيحه، لنحيا بجدّة صدقه، ونصل إلى المعرفة. لم يقل الرسول: لا تكذبوا على الله (فإنّ الله لا يُكذب عليه)، بل "لا يكذب بعضكم بعضًا". وفي هذا، أرادنا أن نهرب من التجلبب بما فعله إبليس مع الإنسان الأوّل. فالكذّاب يتكلّم كلام إبليس (بمعنى أنّه يعطيه أذني قلبه، فيردّد كلامه)! ودعوة المسيحيّ الدائمة أن يصغي إلى الربّ، ويحيا بموجب "ما يخرج من فمه" فحسب. وهذا هو عمق تعليمنا العماديّ. فالمعمّد إنسان أعلن، يوم معموديّته، أنّه يرفض الشيطان وكلّ ما يأتي منه، ويقَبِلَ المسيح، ويوافقه في كلّ شيء. ولذلك لا يستطيع معمَّد أن يكذب، أي أن يحيا كما لو أنّه لم يخلع ثيابه القديمة، ويرتدِ مسيح الله. ليس من المسيحيّة أن يفوتنا، لحظةً واحدة، نحن الذين وهبنا الربّ في معموديّـتنا أن نحيا له، (أن يفوتنا) هذا الذي جرى قديمًا. ليس من المسيحيّة أن يذهب عنّا أنّ كلّ خطيئة نرتكبها، أو نتستّر عليها، أو نُسهم فيها، هي ضدّ صدق الله الذي أقامنا، لنخدم صدقه وجدّته في الأرض.

يبقى أنّ تراثنا رسم، أيضًا، أنّ الإنسان يخطئ لكونه يخاف الموت (عبرانيّين 2: 15). فلا تكذب، هي، أيضًا، أن تحيا حرًّا من الموت، لتسترجع، بنعمة الله، الحياة التي يريدها الله لك اليوم وغدًا.

لا أذكر ما الذي دفع رجلنا إلى أن ينطق قوله. لكنّني ما زلت أذكر أنّ قلبي رقص لحكمة إله يجعل لنا، دائمًا، واحات راحة في هذه الأرض، ليعمق حبّنا له، ونسعى إلى أن نثبت في جنّةِ صدقِهِ المحيي.

- مجلّة النّور، العدد الثاني ٢٠١٤
شارك!

جميع الحقوق محفوظة، 2023
Skip to content