منذ أن انتشر تيّارنا النهضويّ انتشارًا واسعًا، انتشر معه الوعي، بأناقة لافتة، أنّ كلّ إنسان، أيًّا كان جنسه أو عمره، يدعوه روح الله إلى أن يصالح الكنيسة، ليسهم في إصلاحها. وهذا تمتينه دفع الغيورين على الحقّ، أو دفع الله إليهم أن يجتمعوا، باستمرار، في فرق أسبوعيًّا.
مَنْ عملوا على انتشار تيّارنا، في ما اصطلحنا على تسميته "المدّ الحركيّ"، يعرفون أنّ الفِرقة الأولى، التي أسهموا في إنشائها، كانت تضمّ، من دون الأطفال والفتيان، أعضاء من غير عمر ومن غير مستوى علميّ وثقافيّ ومهنيّ. ونعرف، اليوم، أنّ ثمّة مَنْ يرى أنّ هذه الفِرقة المختلطة تحاكي رؤيتنا الأساس: كلّنا واحد، وكلٌّ منّا، أيًّا يكن، شريك لسواه في حياة واحدة.
هذا لا أذكره في هذه السطور، لأدعو إلى العودة إلى الفِرق التي عرفناها، مثلاً، في المدّ الحركيّ. فللتنظيم، الذي حدث، ضرورته ومنافعه الأكيدة. ولكنّ الحلقة، التي يمكن أن تُحسب مفقودةً في ممارسة هذا التنظيم، أن تحيا الفِرق مفصولةً بعضُها عن بعض. وهذا، الذي يحدث في بعض فروعنا، يُظهره أنّ ثمّة أعضاء حركيّين، في هذه الفرقة أو تلك، لا يعرفون، حقًّا، إخوةً لهم من فِرق أخرى. بلى، جلّهم يلتقون في الخدم الليتورجيّة وفي بعض أنشطة رعويّة عامّة. ولكنّ لقاءهم يبدو كما لو أنّه يشبه أيّ لقاء بإخوة آخرين لم ينضووا إلى صفوف تيّارنا النهضويّ. وإن كانت ثمّة قربى، يكشفها بعض الصداقات أو انتماء إلى قرية أو بلدة واحدة، إلاّ أنّ هذه القربى لا تكشف، دائمًا، فاعليّة الالتزام الذي قَبِلَهُ بعضُهم.
السؤال: ماذا نفعل إزاء هذا الأمر؟
أوّلاً، يجب أن نبدي اقتناعًا بأنّ هذا الحال الموصوف يفترض، حيث هو، حلاًّ يساعدنا على أن نعرف بعضنا، حقًّا، لا سيّما في فروعنا التي تجمعنا أساسًا. فالفِرق، وإن كان مفيدًا لها أن يحيا أعضاؤها بعضُهم مع بعض، غير أنّ ثمّة شركةً، تضمّ الكلّ، لا يكمل التزام من دونها. وهذه لا يختزلها أن يلتقي بعضٌ على مسؤوليّة واحدة (في أسرة الطفولة، أو في الخدمة الاجتماعيّة، مثلاً). فيجب أن يعنينا لقاء الكلّ. وهذا يمكننا أن نضع له خطّةً ثابتةً، في غير فرع، تأخذ في الاعتبار:
- أن يكون لنا، ضمن برامج فرقنا، أن تلتقي فرقتين، مثلاً، بين الحين والآخر، على موضوع واحد أو نشاط واحد.
- أن يجتهد أعضاؤنا في أن يزوروا إخوةً لهم، من فرق أخرى، على ألاّ تقتصر الزيارت على مناسبات خاصّة: تهنئة أو تعزية أو عيادة مريض...، مثلاً (من دون أن ننكر أهمّيّة هذه الزيارات التي تبيّن أنّنا عائلة واحدة).
- أن يكون، لكلّ فرع، لقاء ثابت (الأفضل أن يكون شهريًّا)، تجتمع فيه الفرق الكبرى (الثانويّون والجامعيّون والعاملون...) على برنامج يقرّره مجلس كلّ فرع.
- إلى هذا المعروف، يجب أن نذكر أنّ ثمّة فروعًا، في رعايا عدّة، قد اختبرت أهمّيّة أن يشارك أعضاؤها في صلاة ليتورجيّة يوميّة (صلاة الغروب، مثلاً). فهذه، وفق شهادة الذين يمارسونها، وهبتهم أن يختبروا جمال لقاء القدّيسين اليوميّين وتاليًا بعضهم بعضًا. وحسبي أنّ أعلى ما علينا فعله أن نحثّ الإخوة جميعًا على المشاركة في هذه الصلاة حيث هي قائمة، وتاليًا أن نجتهد في إقامتها حيث لمّا تقم. فصلاتنا (اليوميّة، إن أمكن)، معًا، هي قربى لا تفوقها قربى. ويجب أن نثق بأنّ قربانا تعمق كثيرًا إن قرّرنا البقاء، معًا، ولو قليلاً، بعد نهاية كلّ صلاة، أي إن لم ننصرف، بسرعة، بعد ختمها. فمن الصلاة أن نأتي بعضُنا إلى بعض في كلّ ما يزيدنا وعيًا وانخراطًا في أنّنا إخوة.
كلّنا يعلم أنّ هذه اللقاءات الجامعة يمكنها، أيضًا، أن ترينا، بوضوح ظاهر، ما نادى به تيّارنا منذ انطلاقته: أنّ الالتزام يخصّ حياتنا كلّها، أي ليس هو التزامًا مرحليًّا. فلقاء التلميذ والطالب مع العامل والمتزوّج يعطينا أن نزداد وعيًا أنّ التزامنا لا يخصّ عمرًا من دون آخر، أي يؤهّلنا، إلى الخبرات النافعة التي يمكن أن نتبادلها، لأن نردّ، ببلاغة، على تلك التبريرات المَرَضيّة التي ذكرها الربّ في مثل "المدعوّين المتخلّفين عن الدعوة"، أي: "اشتريتُ حقلاً، فلا بدّ لي من أذهب فأراه"، أو: "اشتريتُ خمسة فدادين، وأنا ذاهب لأجرّبها"، أو: "تزوّجتُ، فلا أستطيع المجيء" (لوقا 14: 15- 24).
هذه القربى، التي لا يعوزنا أن نكرّر أنّها من صميم رؤيتنا، لا شكّ في أنّها تعلّمنا، أيضًا، أنّنا واحدٌ وإخوةً لنا في فروع مركزنا الواحد (وغير مركز). فما يعرفه بعضُنا أنّ ثمّة فروعًا كانت تنظّم لقاءاتٍ عامّةً لها، وتدعو إليها إخوةً من فروع أخرى. وما زالت أصوات الشكر تعجّ في آذان حيّة، وتنادينا إلى أن نختبر جميعنا ما اختبره بعضنا. ونعرف أنّ هذه اللقاءات، وغيرها، جعلت بعضنا يشعرون بمشاكل تضرب إخوةً لنا في فروع أخرى. ورأى الإخوة أنفسهم، في غير أمر (أمر تبادل المرشدين، مثلاً)، معنيّين بالمساهمة في حلّها.
كلّما زدنا فهمًا أنّ دعوتنا أن نحيا جميعنا قريبين بعضنا من بعض، يعطينا ربّنا أن نردَّ عنّا ظلم البرد والبعد، ويدثّرنا ببركات أنّنا واحد. فحياتنا في المسيح كلّها أن نجتهد في تمتين هذا الوعي ومدّه. هذا أمر موضوع أمامنا، لنقرّره الآن ودائمًا. إن كنّا نعرف أنّ ما من مؤمن واعٍ يقدر على أن يكتفي بنفسه، فهذا يجب أن يعني لنا، في الآن عينه، أنّه لا تقدر أيّ فرقة حركيّة (أو فرع أو مركز) على أن يحيا أعضاؤها بعيدًا من أيّ أخ جعله ربّنا معنا. فكلّ أخ ذاق أنوار النهضة هو شريكنا في الحلم الذي يقيم الجماعة كلّها في يقظة أنّ الربّ بذل دمه من أجل أن نكون واحدًا، ونحيا واحدًا.