وجرى بين الرسل "جدال فيمَن تراه الأكبر فيهم. فعلم يسوع ما يساور قلوبهم، فأخذ بيد طفل وأقامه بجانبه، ثمّ قال لهم: مَن قَبِلَ هذا الطفل إكرامًا لاسمي، فقد قبلني أنا. ومَن قبلني، قَبِلَ الذي أرسلني. فمَن كان الأصغر فيكم جميعًا، فذلك هو الكبير" (لوقا 9: 46- 48؛ أنظر أيضًا: مرقس 9: 32- 37؛ متّى 18: 1- 5).
ربّما يصدم القارئ العاديّ أنّه جرى بين جماعة الرسل مِثلُ هذا الجدال. ولا نحسب أنّنا نخرج عن التفسير المُرضي، أو التحليل المنطقيّ، إن قلنا إنّ ثمّة أناسًا كثيرين يعتقدون أنّ التلاميذ الأوّلين، الذين التفّوا حول السيّد، وحظوا ببركات رفقته، وسمعوا أقواله المنجّية، وعاينوا أفعاله الخلاصيّة، لم يساورهم أيّ خطأ يُذكر. وهذا الظنّ سببه، عمومًا، ما هو شائع هنا وثمّة، أي اعتبار أنّ الناس القدّيسين اللهُ صنعهم قدّيسين منذ أن خلقهم، أي هكذا من دون إرادتهم. وهذه مخالفة صريحة لقصد الله من خلقه العالم، أو لواقعيّة سرّ الالتزام الحرّ الذي يطلب إيمانًا حارًّا بالله وارتضاء نعمه ارتضاءً كلّيًّا في سبيل تحقيق القداسة ونوال المجد. فما من أحد، في التاريخ كلّه، كمل التزامه بفضلٍ من ذاته، أو أدرك المنى من دون أن يجاهد "الجهاد الحسن" (1تيموثاوس 6: 12؛ 2تيموثاوس 4: 7 و8). والذين تقدّسوا بالنعمة، هم الذين ارتضوا، بحرّيّة تامّة، خلاص الله وجِدّته، أي هم الذين سلّموه حياتهم، واستلموا حياته منه (غلاطية 2: 19 و20).
هذا الجدال يكشف لنا وجهًا من أوجه حياة الجهاد المطلوبة. وأعني ضرب كلّ إيحاء غريب "يساور قلوبنا"، ويريد أن يوهمنا بأنّنا، في عيني الله، أو في عيني أنفسنا، أفضل من غيرنا. وهذا عيب لا يسقط فيه الذين لا يعنيهم برّ الحياة المسيحيّة فحسب، بل إنّما أيضًا المعنيّون والساعون إلى قداسة حياة بلا لوم. ولربمّا هذا الأمر، الذي لا يخفيه الواقع، يزيد على صدمة بعض قرّاء هذه السطور، صدمة. فقد يسأل أحدهم نفسه: كيف تغزو المعنيّين، أو الإخوة الكبار، أفكار مضطربة؟ الجواب السريع أنّ تراثنا حذّر مَن ظَنَّ أنّه قائمٌ مِنَ السقوط (1كورنثوس 10: 12). فالمسيحيّ، ما دام في الجسد، معرّض لكلّ إغراء ووهم. إنقاذ نفسه يفترض منه وعيًا دائمًا، واتّكالاً كاملاً على الله مخلّصه. وما من وعي كامل لا تكون قاعدته النباهة والثبات في الحقّ (1تيموثاوس 4: 16). فإبليس جنّد نفسه ليحارب الواعين جميعًا. مَن لا يهمّهم الوعي، يعتبرهم في صفوفه عمومًا. وأمّا المهتمّون، ففرّغ ذاته كلّيًّا ليقهرهم، لو أمكنه ذلك. قهره هو غير ممكن إلاّ إذا التجأنا إلى الله بالرحمة دائمًا، وقبلناه، بالإيمان المنتبه الثابت، حصنًا منيعًا، وسمحنا له بأن يحارب، معنا، فينا.
أجل، ليس هذا الجدال هو الإغراء الوحيد الذي ساور قلوب الاثني عشر، أو بعضهم. فلقد طلب اثنان منهم، أيضًا، من يسوع أن "يجلس أحدهما عن يمينه والآخر عن شماله في مجده" (مرقس 10: 37). وهذا سببه أنّ هؤلاء التلاميذ الأوّلين لم يكونوا قد تخلّصوا بعد من أفكارهم العتيقة التي كانت تحسب أنّ المسيح جاء، ليحقّق ملكًا أرضيًّا، ويحرّرهم من حكم المستعمرين، أي الرومان آنذاك. هذا الإغراء، مضافًا إلى الجدل موضوعنا (الذي لا يمكننا البتّ أنّ سببه هو أفكار التلاميذ العتيقة ذاتها)، يتجاوزان رسالة الله الخلاصيّة ومشيئته المقدّسة التي هدفها المحدّد أن يملك على القلوب (أمثال 23: 26؛ لوقا 17: 21). هذا هو ملكوته الحقّ الذي لا ينتسب إليه، أو يدخله، إلاّ الذين يرتضون، بوعي ومحبّة دائمين، وداعة المسيح وتواضعه المذهلَيْن (متّى 11: 29).
إذًا، علم يسوع، من دون أن يخبره أحد، أنّ تلاميذه غارقون في جدال عقيم يخالف مضمونه حقّ رسالته ووصاياه المبرورة. لا يذكر لوقا أنّ يسوع "سألهم: فيمَ كانوا يتجادلون في الطريق"، كما فعل مرقس، ولا أنّ التلاميذ هم الذين سألوه: "مَن تراه الأكبر في ملكوت السموات؟"، كما فعل متّى. وذلك بأنّ لوقا أراد أن يدلّنا على معرفة يسوع الفائقة الوصف. فيسوع يعرف ما تفكّر فيه القلوب[1]. وهذا برهان من البراهين الساطعة على ألوهيّته المجيدة. ثمّ أوّل ما فعله يسوع أنّه "أخذ بيد طفل وأقامه بجانبه"، وذلك "ليخجلهم"، كما رأى القدّيس يوحنّا الذهبيّ الفم، وليوحي إليهم، وإلينا، بمَن هو المفضّل عنده، أي المستحقّ أن يكون بقربه. وقال لهم ما قاله، وقصده أن يتعلّموا منه، أو يقتدوا به. فيسوع، الذي هو "مساوٍ للآب في الجوهر"، وضع نفسه حتّى المنتهى (فيلبّي 2: 5- 8). وهذا عينه ما يريده من تلاميذه: أن يضعوا أنفسهم، كلّيًّا، ليستحقّوا أن يكونوا من عائلة الله، أي أطفاله. والطفل من مميّزاته الطبيعيّة أنّه لا يرى قوّته في نفسه، بل في أبيه. ومن مميّزاته، أنّه "نقيّ من الحسد ومن المجد الفارغ وحبّ الأسبقيّة"، وأنّه "ذو بساطة وصدق وتواضع" (القدّيس يوحنّا الذهبيّ الفم، عظات على إنجيل متّى). هذا لا يعني أنّ يسوع أراد، بقوله، أن يتصابى تلاميذه، أو يستصبوا، بل أن يقبلوا فضائله الغنيّة، ليتمكّنوا من الارتقاء إلى أبيه. فيسوع هو ابن الله الوحيد. ومَن تزيّن بفضائله حقًّا، أَلِفَ نفسه أيضًا، بالنعمة، ابنًا لله. وما يوحي به تصرّف يسوع، هو أنّه أراد من تلاميذه، أيضًا، ألاّ يميّزوا بين محبّتهم لله ومحبّتهم للآخرين، وألاّ يحابوا بين وجه ووجه. فالآخرون جميعًا وجه الله إلينا. وهم، تاليًا، دليلنا إليه. هذا ما يبيّنه الربّ، بوضوح كلّيّ، في تصرّفه المذكور، وفي كلامه التابع الذي يتنقّل فيه، من دون كلفة أو تعقيد، من أنّ تلاميذه إذا قبلوا طفلاً (يجب أن نفهم أنّه يقصد كلّ عضو في الجماعة)، إكرامًا لاسمه، يقبلونه هو شخصيًّا، وإذا قبلوه هو، يقبلون أباه. فالتلميذ لا يكون تلميذًا حقيقيًّا إلاّ إذا قَبِلَ، بآنٍ، الله والآخرين، ولا سيّما الوضيعين في الجماعة. ومعنى ذلك أنّ كلّ تلميذ لا ينمو، أو يرتفع، إلاّ إذا نزل، أو "وضع نفسه" (متّى 23: 12). فإنّ أحدًا لا يمكنه أن يكون أوّلاً إلاّ إذا قَبِلَ أن يكون آخر الكلّ، أي إلاّ إذا اعترف ببطله وفي آنٍ بفضائل سواه. ولا يقصد يسوع الاعتراف الشفهيّ حصرًا. الذي يعرف القلوب يريد إقرارًا حقيقيًّا عميقًا بالآخرين ومواهبهم، إقرارًا يثبت الوعي أنّ أحدًا لا يمكنه أن ينمو وحده، بل إنّما بقبوله فضائل الله العابق طيبها بجماعته، وبارتباطه بهم جميعًا.
لقد حلّ يسوع المسألة، أو موضوع الجدال، بدفعه تلاميذه إلى أن يرتضوا التواضع نهج التزام، ويحسبوا أنفسهم "أوّل الخطأة" (1تيموثاوس 1: 15)، ويكونوا دائمًا متّفقي الآراء، ويمجّدوا الله على عطاياه الجمّة (رومية 15: 5 و6). و"يودّوا بعضهم بعضًا بمحبّة أخويّة"، و"يتنافسوا في إكرام بعضهم لبعض" (رومية 12: 9 و10)، ويريدوا للجميع حقًّا، ومن دون تمييز، الخير والتنعّم ببركات الله، ويعملوا من أجل ذلك (رومية 15: 2؛ 1تسالونيكي 5: 15). هذا لا يعني أنّ يسوع أبى، في حلّه هذا الجدال، أن يجتهد كلّ تلميذ مخلص، ليكون بقربه. لكنّه دلّ، بتصرّفه وكلامه، تلاميذه الأوّلين، والمسيحيّين في غير جيل، على الطريقة الفضلى التي تُفرح الله، وتجعلهم من الأوّلين.
مجد كلّ إنسان مؤمن بالله يكمن في أن يعرف أنّ يسوع تبنّاه لأبيه. مَن وعى هذا الحقّ، لا يعتبر أنّ هناك شيئًا أعلى منه. ولا يجادل على منصب، لا في الأرض ولا في السماء. ولا ينتفخ. ولا يطلب مجد نفسه أو مجدًا من بشر. هؤلاء التلاميذ البررة فهموا، بعد أن غمرهم الروح بعطاياه، أنّ الدنيا وما فيها إلى زوال، وأنّ الأمر، الذي لا توازيه أهمّيّة، أن يرضى الله عنهم، ويقبلهم بقربه. وتعلّموا أن يروا الله ويقبلوه في الإخوة، وأن يرتقوا، باعترافهم بالحسنات التي يسبغها على الآخرين، من مجد إلى مجد.
[1] أنظر: متّى 9: 4؛ مرقس 8: 17؛ لوقا 16: 15، 24: 38؛ أعمال 1: 24، 15: 8؛ رومية 8: 27؛ رؤيا يوحنّا 2: 23.