أوّل نصّ إنجيليّ، تقرأه الكنيسة علينا في الأحد الذي يلي عيد "الظهور الإلهيّ" (الغطاس)، يختمه قول الربّ يسوع: "توبوا، فقد اقترب ملكوت السماوات" (متّى 4: 13- 17). وفيما لا يفوت المؤمنين، الملتزمين صلوات الجماعة، أنّ الكنيسة لا ترتجل في مخاطبة أزمنتهم لتغدو كلّها مسيحيّة، يدعونا اختيار هذا النصّ، ولا سيّما القول الذي يختمه، إلى أن نبحث، وإن في عجلة، عن القصد من توقيعه في هذه الفترة الليتورجيّة.
لا أقول ما ليس معروفًا إن صدّرت هذه السطور بأنّ مسيحيّين كثيرين، أعني الذين يلتزمون الكنيسةَ شركةَ صلاةٍ في الأعياد، عاد لا يهمّهم من المسيحيّة كلّها سوى أعيادها. ومن دون أن أخرج على ما وضعته لنفسي خطًّا هنا، أريد، بادئ بدء، أن أرى إيجابيّةً في هذا "الالتزام". فالمسيحيّة كلّها عيد فعلاً. ولكنّها عيد لا يبيّن مَنْ اعتبرتهم كثيرين أنّهم يعلمون بأنّه عيد مستمرّ، أي يجمع المؤمنين الذين يأخذهم خلاص الله، ليبقى قائمًا في القلب أبدًا. ولا أعني بالقلب انفصالاً عن شركة الجماعة، بل حياة الله الذي أراد أن يزرع فينا قناعةً أنّنا، إن لم نكن إليه وإلى المؤمنين في غير آن، فمسيحيّتنا تكون زيًّا خارجيًّا!
هذا يشجّعني على أن أعتقد أنّ قولة يسوع، في هذا الخيار الليتورجيّ، أي "توبوا"، إنّما تعني، حصرًا، أجل حصرًا، أنّ هدف أعيادنا كلّها أن نحيا في توبة مستمرّة. ولا يُستثنى من هذا الهدف مَنْ هم ملتزمون حقًّا. فالعيد، الذي يضمّ إخوةً لا يعنيهم سوى العيد وآخرين وعيهم صارخ أنّ المسيحيّة كلّها عيد، لا يقول للملتزمين حقًّا شيئًا ولسواهم شيئًا آخر. العيد خطابه واحد: أن نتوب إلى الله أبدًا، أو، إن كنّا من محبّي التوبة، أن نزداد فيها أكثر فأكثر. ولا أُحمّل نصًّا إنجيليًّا، يرينا يسوع "يسكن في كفرناحوم على شاطئ البحر..."، ما لا يقوله إن ذكرت أنّ الكنيسة أرادت منه أن نحيا، بآن، في التزام حياة الكنيسة والتزام الله في أيّ موقع ننزل فيه. المسيحيّ الحقّ لا يفصل ما بين هذين الالتزامين اللذين هما، في واقعهما، التزام واحد. العيد، عيده، هو الربّ الذي سكن بيننا، لنسكن إليه في غير آن ومكان.
بلى، أيّ ملتزم واعٍ يمكنه أن يعرف أنّ هذا النصّ الإنجيليّ موقَّع بعد عيد "الظهور الإلهيّ" توًّا في مطلع فترة ليتورجيّة لن يقطعها عيد كبير قَبْلَ أسابيع عدّة (الصوم الكبير، أو الفصح العظيم). وهذا، في شكله ومضمونه، يؤكّد ما أردنا قوله في هذه العجلة، أي أنّ الكنيسة تنتظر أن يحيا كلّ عضو، في شعب الله، على وعي محبّة التوبة عيدًا راهنًا. ولا يخالف هذا التأكيد أن يرى أحدٌ، رَبِيَ على محبّة الكتب المقدّسة، أنّ الكنيسة استلّت هذه التلاوة تماشيًا مع الحقيقة الإنجيليّة التي بيّنت أنّ يسوع، بعد معموديّته، خرج إلى الكرازة، بل يزيد من تأكيده. فـ"توبوا"، التي نادى بها يسوع في مطلع كرازته، والتي تطلب أن نربط مصيرنا بمصيره، هي عينها التي تقولها الكنيسة في هذا الزمان الذي نحيا فيه، ليزداد المؤمنون جميعهم وعيًا أنّ ربّ العهد الجديد نفسه يناديهم هم أنفسهم الآن، أي في زمانهم الحاضر، إلى أن يتبعوه، ويعطوه قلوبهم، ويكونوا هم أنفسهم في العيد الحقّ الذي يمدّ الله، في الأرض، في إخلاص الحياة.
إذًا، أن تختار الكنيسة نصًّا، يقول الربّ فيه "توبوا، فقد اقترب ملكوت السماوات"، إنّما هو اختيار مقصود. وهذا القول، واحدًا، يجب أن يعني لنا، الآن وفي غير آن، أنّ التوبة هي توبة إلى أنّه هو، وحده، الملك. بمعنى أنّ ما أراده ربّنا من قوله كاملاً، والكنيسة التي تبعته طوعًا، أن نفهم، فهمًا لا رجوع عنه، أنّ التوبة لا يقولها، حقًّا، أن نكتفي بتغيير هذا السلوك الخاطئ أو ذاك، بل أن نلتصق بالملك، الذي صار بيننا، بالطاعة التي هي أنّنا نحبّه. كلّ سلوك صحيح لا يعني شيئًا فعلاً إن لم ينبع من طاعة أنّ الله، ملك حياتنا، يريدنا كلّيًّا له.
هذا كلّه يبيّن أنّ المسيحيّة مسؤوليّة. الذين يفرحهم العيد، أو يعتنون بأن يُفرحوا سواهم في العيد (وفق أسلوب يرضهم)، واجبُهم أن يُلزموا أنفسهم بوعي أنّ أعلى فرح، ينتظر الربّ أن ننشره في الأرض، أن نذكّر الناس، الذين يخصّوننا أو لا يخصّوننا، بأنّه أتى، وفتح لنا درب أن نكون أعضاء في ملكوته. فالعيد، الذي لا يني فرحه، أن نخدم الله في أرضٍ دفعه الحبّ إلى أن يسكنها. أن نخدمه، أو أن نجعل الآخرين يفطنون إلى أنّه بات بيننا، المعنى واحد. وهذه مسؤوليّة لا تقتصر على عضو، في الجماعة، من دون آخر. إن كان الفرح عامًّا، فالمسؤوليّة أيضًا. وما من مسؤول، حقًّا، إلاّ مَنْ يبدي، في أقواله وحياته، أنّ عيدَهُ محبّةُ توبةٍ تفترض أن نُخرج الربّ الذي سكننا بسلام في برّ حياة كنيستنا، لندعو الناس، ولا سيّما "الجالسين في الظلمة وبقعة الموت وظلاله"، إلى أن يرتضوا نوره العظيم. فالمسؤول لا يهمّه شيء في الكون، أيّ شيء، سوى أن يبلِّغ أنّ المسيح، نورنا وحياتنا، هو هنا يطلب صداقتنا الآن.
الآن، تقول الكنيسة في هذا الخيار، الآن، خرج يسوع، ليدعوكم إلى ملكوته. لا تجعلوا أعيادكم مناسباتٍ ظرفيّة. هذا سكر غير صاحٍ! لكن، توبوا إليه، اليوم وغدًا. هذا هو عيدكم. انظروا حولكم. ألا ترون أنّ العالم غريق في آلامه ومشاكله والموت الذي يضربه من دون استئذان؟ انظروا، وفكّروا في مصيركم ومصير مَنْ هم معكم وإليكم. مَنْ ينجّيكم؟ مَنْ يفرحكم؟ وَمَنْ يقيمكم في عيد أبديّ؟ إنّما هو الربّ يسوع الذي خرج إليكم، ليعطّر، بطيب قدميه، مدنكم وقراكم، ويجفّف بكم كلّ الأنهار التي تنبع من مآقي أهلكم وأصحابكم. فأنتم، أيضًا، إن حييتم بالتوبة وخدمة التوبة، تكونون العيد الذي يُفرح السماء.