16مايو

تمهيد

قضيّة الوقت، في المسيحيّة، قضيّة ترتبط ارتباطًا وثيقًا بإيماننا بأنّ الربّ قائم في "الحاضر المستمرّ". مَنْ يحيَ في صحبة الجماعة القويمة، لا يَفُتْهُ أنّ الكنيسة الأرثوذكسيّة بنت عمارتها الليتورجيّة على أساس لاهوت "اليوم" الذي هو بمعنى "الآن". كلّ التاريخ، ماضيًا وحاضرًا ومستقبلاً، يقوم على هذا "اليوم" الذي تمّم مسيحُ الله فيه خلاصَنا. وهكذا تدعونا الكنيسة إلى أن ننشد: "اليومَ يولَدُ من البتول"  (عيد الميلاد). "اليومَ حضرَ الربُّ في مجاري الأردنّ" (عيد الظهور الإلهيّ). "اليومَ عُلِّقَ على خشبة" (يوم الجمعة العظيم). "اليومَ يومُ القيامة" (عيد الفصح). "اليومَ نعمةُ الروح القدس جَمَعَتْنا" (عيد العنصرة). "اليومَ صار الخلاص للعالم" (قَبْلَ الخدمة الإلهيّة). ننشدها وغيرَها، كما أنشدها الذين كانوا قَبْلَنَا، وكما سينشدها الذين سيأتون بَعْدَنَا. ولا نقول الذين قَبْلَنَا وبَعْدَنَا تثبيتًا لتعاقب الزمن الذي هو، بكلّيّته، في قبضة الله الحيّ. فالناس، في غير جيل، إنّما يلتقون معًا في الله الذي يحفظ صلواتهم الطاهرة إلى أبد الدهور.

 ثمّ إذا توغّلنا في لاهوت الخدمة، وأعني الخدمة الإلهيّة، فيأخذنا مثلاً، إذا وُجِدَ شمّاس، حوارٌ يقام، قَبْلَ الخدمة مباشرةً، بينه وبين الكاهن (وإذا رئس الخدمةَ أسقفٌ، فبينهما). وهذا يبدأه الشمّاس بقوله: "هوذا وقتٌ يُعْمَلُ فيه للربّ". وفي الخدمة، يعني هذا الكلام الجليل أنّ الله ينقضّ على زماننا الآن، ليثبّت عمله. وعمله خلاصنا. كلّ حياتنا في قبضة الله الذي قبض علينا في مسيحه. فإنّما الخدمة الإلهيّة لنعي أنّ المسيح قد تمّم هذا القبض، ويريدنا أن نجدّد قبوله اليوم، أي الآن. وهذا يقوله لاهوتنا، بشكل آخر، عندما يكشف أنّنا في الخدمة، التي نتناول فيها جسد المسيح ودمه، يتناولنا مسيح الله نفسه. نحن في الله. نحن جسد المسيح بهذا المعنى الواحد الذي يحمل مقتضى المسيحيّة كلّها. وإذا توغّلنا في الخدمة أيضًا، فيأخذنا أنّنا فيها نذكر كلّ تدبير الله الخلاصيّ بما فيه مجيء الربّ ثانيةً. وهذا أمر جدير بالانتباه. فالكنيسة تريدنا أن نثق بأنّنا نأتي من بعدُ، من هبة المسيح الحيّ الذي "أقامنا، وأجلسنا معه في السماويّات" (أفسس 2: 6). وهل من إثبات أعلى من أنّنا بتنا قائمين في زمن الله؟ ليس بعد مجيء ابن الله من كثافة للزمن. هذا ليس فيه إلغاء. هذا تجاوز.

   هذه الخواطر كُتبت على أساس هذا اللاهوت الحيّ الذي يملأ القلب بعطره الفوّاح. ولقد اخترنا أن تتّشح بكلمات الرسول المثبتة في رسالته الثانية إلى كنيسة كورنثوس، أي قوله: "هوذا الآن وقت مقبول" (6: 2). وقوله الكامل: "هوذا الآن وقت مقبول، وهوذا الآن يوم الخلاص"، يوحي بهدف هذا الاختيار. فهذه الخواطر كُتبت، لنؤكّد أنّ الربّ يرغب في أن نتوب إليه الآن، ونقبل خلاصه الآن. فالآن وقت مقبول ويوم خلاص. وما كان لنا أن نردّد ما يرغب فيه الربّ، لولا أنّه هو مَنْ يريد أن يقبلنا الآن. نتوب، الآن، لكونه هو فاتحًا يديه لنا، ليضمّنا إلى صدره كتلاميذ له أحبّاء. وحسبنا أن نصدّق، ونرى أنفسنا فيه أبهى ضياءً من الشمس. إذ ليست للخطايا قدرة أمام الله. وإذ إنّ إرادته الثابتة أن ينعم علينا بأن نراه أقدر من كلّ ما يعيق تقدّمنا إليه. فالمسيح "أحبّنا أوّلاً" (1يوحنّا 4: 19). وفي الواقع، هذا هو معنى التوبة في المسيحيّة. فالتوبة ليست أن نغيّر هذا السلوك، أو ذاك فحسب. التوبة هي أن نغيّر حياتنا كلّها بقبولنا "أنّ الربّ أحبّنا أوّلاً" أساسًا لحياة جديدة. لقد جاء المسيح، وبيّن محبّته لنا، وقال لكلّ واحد منّا أن نتبعه. قَبْلَ مجيئه، كان لنا درب واحد، هو درب الموت (حزقيال 18: 30- 32). جاء، وهدم دربنا بمحبّته، وجعل نفسه دربنا (يوحنّا 14: 6)، لنمشي فيه إليه، ونحيا به وحده.

خواطر إن هي سوى اعترافات علنيّة. وهذا، الذي قد يعجب منه بعض القرّاء، كان أمرًا معروفًا في مطلع المسيحيّة. ليس بمعنى أنّ الناس كانوا يدوّنون خطاياهم على ورق، وينشرونها، بل إنّهم كانوا يعترفون بذنوبهم، علنًا، في وسط الجماعة التي يؤمّها الأسقف، ولا سيّما في حالة بعض الخطايا التي وصفتها القوانين الكنسيّة بالشهيرة، أي القتل والزنى والجحود. ثمّ تغيّر شكل الاعتراف، في مطلع القرن الخامس، بقرار من نكتاريوس بطريرك القسطنطينيّة خلف القدّيس يوحنّا الذهبيّ الفم، خوفًا من المعثرة إذا فاه بخطاياه شخص معتبر. للكنيسة حكمتُها. ونحن لم نرد، في هذه المساهمة، أن نتطاول على حكمة الكنيسة، أو نأتي بأمرٍ غريبٍ عن تراثنا. حاشا! فالثابت أنّ الكنيسة، في هذا التغيير، لم تبطل الاعتراف العلنيّ. وهذا نتبيّنه إذا نظرنا إلى ما يجري في الاعتراف اليوم. وما يجري أنّ المؤمن يجيء إلى أبيه، ويقول له، بصوتٍ مسموعٍ، خطاياه القاتلة، ويلقى إرشادًا مسموعًا ودعاءً مسموعًا. والمعروف أنّ الأب الروحيّ، في حياة الكنيسة، يمثّل الجماعة، ولو أنّه لا يختزلها. إنّه يسمع الاعتراف لكونه أعطي "سلطان الحلّ والربط". وهذا السلطان من مدلولاته أنّ الكاهن مُنح أن يعلن عودة الخاطئ إلى حياة الجماعة، إذا تأكّدت توبته، بعد أن كانت الخطيئة قد فصلته، ورمته بعيدًا منها. هذا المشهد، وإن تمّ بين شخصين محدّدين، له طابع علنيّ. بلى، إنّ الكنيسة منعت الكاهن من أن يكشف خطايا معترِف. ولكنّ الانفصال عن الجماعة مشهد علنيّ، والرجوع إليها علنيّ أيضًا. وأن تعلن خطاياك، لهو أن تقرّ بأنّ الله يعرف ما تقوله قَبْلَ أن تقوله. فمعنى العلنيّة الأخير لا يرتبط بك، بل بالله الذي يريدك أن تعرف أنّه يحبّك، وينتظرك. يحبّك، وينتظرك الآن.

مَنْ يقرأ هذه الخواطر، يعرف أنّ فصولها تتحرّك ضمن الجماعة التي تحمل دعوة الله الجديدة والمجدّدة. وهذا أمر جدير بذكره في سياق الكلام على الاعتراف الشخصيّ. فنحن، عادةً، نحسب أنّ الاعتراف شأن خاصّ، أي لا يعني الإخوة في الجماعة. وهذا أمر لا علاقة للروحانيّة الأرثوذكسيّة به، لا من قريب ولا من بعيد. فالحياة الكنسيّة حياة جماعيّة. إنّها هكذا على غير مستوى. إنّها كلّيًّا هكذا. فمَنْ يعترف أمام أبيه الروحيّ مثلاً، توبته تكون ناقصة إن لم يستكملها بوعي ارتباطه في حياة الجماعة. وَمَنْ يقبل التوبة من طريق أبيه، ويرفضها من طريق إخوته، يتوهّم أنّه تاب. ومَنْ تزلّ قدمه، دور الجماعة أن تصلحه، وتعينه في مسيرة جديدة لا تقبل نظرًا إلى الوراء. ومَنْ يخرج على الجماعة، يضرّ بها. ما من توبة هدفها فرديّ. بلى، مَنْ يخطئ خطيئته تعنيه أوّلاً. ولكن، ليس من خطيئة من دون آثار سلبيّة تطال الجماعة التي يحيا المؤمن في شركتها. لست، في هذا، أعني أنّ مَنْ يرتكب خطيئة يحاسَب عليها غيرُهُ أيضًا، بل إنّ مَنْ يفعل يحرم إخوته المنفعة التي كان عليه أن يزرعها في حياتهم معًا. ثمّة شركة في الجماعة لا يفكّها شيء. وبهذا المعنى، قال الرسول: "فَمَنْ يكون ضعيفًا ولا أكون ضعيفًا؟ ومَنْ تزلّ قدمُهُ ولا أحترق أنا؟" (2كورنثوس 11: 29).

ثمّ يمكن أن يلاحظ القارئ أنّ شخصيّات هذه الخواطر يتنوّع جنسهم وعمرهم، وأحيانًا مستوى التزامهم الكنسيّ. وهذا يجب أن يعني لنا أنّ التوبة يدفعنا إليها روح الله من طريق جميع خلقه كبارًا كانوا أو صغارًا. كيف نفتح قلوبنا لروح الله الذي "يهبّ حيث يشاء" (يوحنّا 3: 8)؟، ذاك هو مفتاح الجدّة ومحقّقها. يجب أن نؤمن إيمانًا راسخًا بأنّ الله لا ينفكّ يكلّمنا في الليل وفي النهار، أي في كلّ وقت. هذا أقوله ومعظمنا يعرف أنّ ثمّة قناعة شبه راسخة، في محيطنا، وهي أنّ التوبة نستقبلها من فم معتبرِين فحسب. وهذا حصر لا يليق بحرّيّة الله وأطر عمل روحه القدّوس.

ثمّة، في التراث النسكيّ، قصّة معبّرة تساعدنا على اتّباع الحقّ. وهذه جرت كالتالي: "يُروى أنّ ناسكًا لم يكن قد قرّر، نهائيًّا، أن يلتزم حياة الدير. لم يكن يعرف إن كان الله يريده راهبًا أو سائحًا (وهذا كان معروفًا في القديم). كان، في أحد الأيّام، يمشي في البرّيّة. فوجد امرأة عارية تسبح في بحيرة. فانتهرها قائلاً: اخرجي، وارتدي ثيابك، فأنا راهب. فأجابته: لو كنت راهبًا، لكنت في الدير. فسمع هذا القول على أنّه من فم الله"! لقد أطاع هذا الناسك "المتحيّر" دعوة الله من فم امرأة كانت تسبح عارية. وهذا دليل يكفي. فإنّ الله يريدنا أن نطرّي قلوبنا متى أتانا صوته (عبرانيّين 3: 7 و8). ولن يقبل أن نحدّد له الأفواه التي يريد أن يخاطبنا بها.

هناك، في الواقع، قصص عديدة تعلّمنا أنّ الإنسان العظيم القلب هو من يحيا في توبة مستمرّة، أي هو مَنْ يقبل حقّ الله في كلّ كلمة طاهرة ومشهد معبِّر. دونكم هذه القصّة من الأدب النسكيّ أيضًا: "أرسل القدّيس أثناسيوس بطريرك الإسكندريّة (القرن الرابع)، يومًا، إلى الأنبا بمفو في الصحراء، وطلب منه أن يأتي إلى الإسكندريّة. أطاع بمفو الدعوة. وفي طريقه، رأى امرأة يدلّ مظهرها على أنّها من بائعات الهوى، فأخذ يبكي. سأله الذين معه: لماذا تبكي؟ فأجابهم: إنّي أبكي لسببين، الأوّل هو ضياع هذه المرأة، والثاني هو أنّني لست مهتمًّا بأن أرضي الله كما تهتمّ هي بأن ترضي الرجال الخطأة!". لقد جعل مشهدٌ هذا الراهبَ القدّيسَ ينطق كلامًا ليس من الأرض. القصّة تبيّن أنّه كان ذاهبًا إلى زيارة رجل عظيم في زمنه وفي غير زمن. كان بإمكانه أن يغمض عينيه، ويمشي. المنفعة سيحصل عليها في اللقاء المرتقب. ولكنّه لم يفعل. قلبه حيّ. بلى، يمكن أن يفكّر أحدنا في أنّ الأب بمفو أراد، بما قاله، أن يعلّم الذين كانوا معه. ولكنّ هذا لا يخفي الصدق الذي تبيّنه كلماته. هذا مثل ثانٍ دلالته مذهلة!

في التراث القويم، ثمّة أمران أساسيّان حول التوبة. أوّلهما نستوحيه من رسالة القدّيس يعقوب الجامعة، أي قوله: "فإذا عملتم بالشريعة السامية التي نصّ عليها الكتاب، وهي: أحبب قريبك حبّك لنفسك، تُحسنون عملاً. وأمّا إذا راعيتم الأشخاص، فترتكبون خطيئة، وتُثْبِتُ الشريعة عليكم أنّكم من المخالفين. فَمَنْ حفظ الشريعة كلّها وزلّ في أمر واحد منها، أخطأ بها جميعًا، لأنّ الذي قال: "لا تزنِ" قال أيضًا: "لا تقتل". فإذا لم تزنِ ولكنّك قتلتَ، كنتَ مخالفًا للشريعة. تكلّموا واعملوا مِثْلَ مَنْ سيدان بشريعة الحرّيّة، لأنّ الدينونة لا رحمة فيها لِمَنْ لا يرحم، فالرحمة تستخفّ بالدينونة" (2: 8- 13). وثانيهما من الرسالة إلى العبرانيّين، حيث نقرأ: "فالذين تلقّوا النور مرّةً وذاقوا الهبة السماويّة وصاروا مشاركين في الروح القدس، وذاقوا كلمة الله الطيّبة وقوى العالم المقبل، إذا سقطوا (في خطيئة) مع ذلك، يستحيل تجديدهم وإعادتهم إلى التوبة، لأنّهم يصلبون ابن الله ثانيةً لِخُسرانهم ويشهِّرونه" (6: 4- 6). ويمكن أن يلاحظ القارئ أنّ ما يجمع بين هذين القولَيْن هو الجدّيّة التي تنتظرها الكنيسة من أعضائها جميعًا. فكلّ خطيئة يرتكبها المسيحيّ هي خطيئة كاملة، هي "الكلّ"، أي خطيئة يصعب تجديدها من دون نعمة القائل: "تعالَوْا إليّ، يا جميعَ المُتعَبين والثقيلي الأحمال، وأنا أريحكم" (متّى 11: 28). فالمسيحيّ شأنه الدائم أن يعي أنّ دعوته أن يجتهد، ليبقى واقفًا. وهذا يبيّنه الرسول بقوله: "فَمَنْ ظنّ أنّه قائم، فليحذر السقوط" (1كورنثوس 10: 12). والجدّيّة، التي تصعّب إمكان التعثّر فالسقوط، هي التي تقيمنا إن سقطنا، أو هكذا يجب. المسيحيّ جدّيّ، أي شخص يعرف أنّ هدف حياته في المسيح هو أن يكمل فيه. وإن كان الكمال مسعى، وفق قول الربّ: "كونوا أنتم كاملين، كما أنّ أباكم السماويّ كامل" (متّى 5: 48)، فهذا يفرض على كلّ مَنْ يعنيه أن يأتي من فم الربّ أن ينفض عنه الأوساخ التي قد تعلق به. وما قاله الرسول عن التحذير من السقوط، نجد معناه التامّ في الارتباط بالإخوة. فأنت كيف تبقى قائمًا؟ كيف لا تزلّ؟ كيف، إن زللت، تقف من جديد؟ والجواب عن هذه الأسئلة واحد، وهو في قبولك شركة الجماعة. فأنت لا يمكنك أن تعرف شيئًا إن كنتَ بعيدًا. المعرفة شأن القربى. والحياة شأنها القربى أيضًا. عندما قال المسيح لتلاميذه أن يتبعوه، وجدوا أنفسهم، معًا، معه. لا يمكننا أن نفهم معنى هذه الدعوة إلاّ في بركات هذه المعيّة. دائمًا، التوبة تفترض ارتباطًا بالإخوة الذين يكشفون لنا الله، ويساعدوننا على خيار حبّه وقبول ما يحيينا من فضائله. يكشفون لنا، ويساعدوننا الآن.

هل هذه الخواطر كلام في الخطايا فحسب؟ الكلام في الخطايا قد يتعب النفس. هذه معثرة ربّما يواجهها قارئ إن وقف عند ما تصفه هذه الصفحات من خطايا، ولا سيّما إن شعر بأنّها تخصّ غيره. كلّ ما يُكتب له أسلوب قراءة (لوقا 10: 26). هناك مسؤوليّة دائمة على القارئ أمام أيّ نصّ مكتوب. لستُ أقصد أنّ هذه الصفحات كُتبت بعيدًا ممّا جرى في قلب واضعها. ما كُتب، حصل كلّه. لكنّه كُتب على رجاء المنفعة أيضًا. لست بقائل إنّنا كلّنا خطأة، كما يقول معظم الناس خوفًا من تقديم اعتراف شخصيّ عن آفات ارتكبوها بوعي أو عن غير وعي. فما يهمّني أنّ مَنْ يجد أنّ بعض هذه الخواطر يحمل منفعة ما، فلا يترك المنفعة. هذا أقوله، بتواضع، على سبيل الرجاء. والحقيقة أنّ هذه الخواطر هي كلام في ضرب الخطيئة. هي تراجع عمّا يرتكبه الإنسان عفوًا أو قصدًا. إنّها تقول، بطريقة ما، إنّ الله حاضر، ليحوّل النار إلى ندًى والبرّيّة إلى بستان. فالتوبة، في الأخير، هي أن يحوّلنا الله إليه كما يحوّل القرابين في الخدمة الإلهيّة، أن يحوّلنا من مادّة من هذا الوجود إلى نوره العجيب. التوبة نور. وهذه يحقّقها الربّ الآن.

"هوذا الآن وقت مقبول" تعني هوذا الآن وقت يقبل الله فيه كلّ واحد منّا. "فالله ليس، عنده، محاباة" (رومية 2: 11). ولربّما سرّ الله أنّه يحبّ مَنْ سجنتهم الخطيئة في قعر الهاوية. فالربّ أتى، "ليعلن للمأسورين تخلية سبيلهم" (لوقا 4: 18). هناك، في العهد الجديد، أقوال عديدة تبيّن أنّ ابن الله أتى من أجل صحبه الخطأة أوّلاً! إنّه كمال الحبّ الذي يعلّمنا أن ليس أحد بارًّا أمام الله، يعلّمنا "أنّ جميع الناس قد خطئوا فَحُرِموا مجد الله" (رومية 3: 23). فأنت، إن أردته صديقك، إن أردته طبيبك، لا تستطيع أن ترى ذاتك بارًّا، أو صحيحًا، في عيني نفسك أو عيني إلهك. "هوذا الآن وقت مقبول" تعني، ممّا تعني، أنّه يبحث عنك، لينقذك من الصدأ، ويصطحبك معه إلى حيث هو قائم عن يمين أبيه. إن كانت عادتك التأجيل أو المماطلة، فمن ملكاته أن يقنعك بأنّه دنياك الآن. لقد علّمنا آباؤنا النسّاك أن نذكر الموت ما دمنا أحياء. لم يكن قصدهم أن نخاف الموت، فنتّجه صوب الله، بل أن ندرك أنّ الدنيا إنّما هي زائلة، وأنّ الباقي هو وجه إله لبس ترابنا، لنلبس نوره السنيّ. ما من أمرٍ أصعب من رؤية الحياة على قاعدة وَهْمٍ نخاله أو نستحليه. فنحن جميعًا، أطفالاً وشبابًا وكهولاً وشيوخًا، مدعوّون إلى اقتناء حكمة الله بأن نتوب إليه حقًّا. التوبة لا تؤجّل. والمماطلة (والعرج بين الجانبين) لا تنفعنا البتّة. فما ينفعنا أن نصدّق أنّ "كتابنا" يؤكّد أنّ الله يقبلنا الآن، لنحيا له وفيه الآن وكلّ آن.

هل هذه الصفحات حثّ على الاعتراف بعيدًا من أسرار الكنيسة؟ لا، البتّة! فما قلناه، يؤكّد أنّ الكنيسة، كما أسّسها ربّها، هي حياة المؤمنين. معظمنا يعرف أنّ ثمّة مؤمنين كثيرين، اليوم، لا يمارسون الاعتراف أمام الكهنة. وكلٌّ له تبرير خاطئ يرتاح إليه. ولكنّ هذا ليس جوّ هذه الخواطر. فالاعتراف أمام الكهنة لا يلغي وعي المؤمن شخصيًّا حضورَ الله وحقَّ الارتباط به، لا بل يطلبه. كلُّ محبٍّ لله، في الكنيسة، يريد المؤمنين، الذين أبعدوا أنفسهم عنها، أن يصالحوا أسرارها وصلواتها وشركة أهلها مصالحة تامّة. فالمصالحة شرط أساس من شروط إصلاح الذات، وتاليًا بناء الجماعة. إذ لا يقدر أحد على أن يتجاوز حياة الكنيسة ونظامها وترتيبها، ويدّعي أنّه موجود. الكنيسة هي التي تعلّمنا معنى أن نكون موجودين. هذه الصفحات تشجيع على الاعتراف بحقّ كنيسة إن لم نعترف بوجودها نعلن أنّنا قرّرنا، بمحض إرادتنا، أن نفقد وجودنا الفاعل.

  ما يحلو لي، أخيرًا، أن أختم هذا التمهيد بشكر واعتراف واجبين. أمّا الشكر، فللإخوة المحتجَبين الذين كتبوا هذه الصفحات عليّ قَبْلَ أن أنقلها إلى ورق. لم يكن قصدي، في كشف هذه الأحداث المُجَدِّدة، أن أقلّل من قيمة أحد منهم. حاشا! فأنا لا أعتقد أنّ أحدًا منهم، إن وقعت بين يديه هذه الصفحات، سيعرف نفسه فيها. بل كلّي ثقة بأنّهم جميعًا سيجدون أنفسهم، لاعتبارات عديدة، قرّاء عاديّين. ويكفيني أن أعرف أنّ فضلهم على قلبي كبير. وأمّا الاعتراف، فهو أنّني، عندما خطر لي أن أكتب هذه الصفحات، خفت كثيرًا. ولكنّي لمستُ، يومًا فيومًا، بما انهمر عليّ من أحداث مرّت وما زالت أمامي، أنّ الله طويل الأناة فعلاً. أيٌّ منّا ربّما لا يحتمل أن يخطئ معه آخر. ربّما يعود لا يعنيه مَنْ أخطأ بحقّه. أخلاق الله، وبعض صحبه الأكابر الذين أيقنوا بأنّه يقبلهم الآن، تختلف اختلافًا كلّيًّا. الله طويل الأناة ستبقى صفته المنيرة حتّى نعرف، في عمق قلوبنا، أنّ لطفه بنا هو الذي يقودنا إلى التوبة الآن (رومية 2: 4).

 الآن هي حاضر الله القائم في حاضر مستمرّ، لنترك ماضينا وكلّ ما وراءنا، وننتسب إلى حاضره المحيي، ونكون جددًا به وحده.

                        المؤلّف

شارك!

اضف رد

جميع الحقوق محفوظة، 2023
Skip to content