هذه شهادات مأخوذة من واقع الحياة، وليست قصصًا، أو عبرًا، من نسج الخيال. ولقد كتبها، على لحم قلوبنا، أشخاص غزاهم روح الله. وحاولنا نقلها إلى ورق، من دون أن نضيف شيئًا إلى حقيقتها. ربّما نكون قد لوّناها لغويًّا، أو وضعنا، هنا وثمّة، لإحكام المنفعة، على لسان بعض أشخاصها، قولاً كتابيًّا أو آبائيًّا. ولكنّ بلاغة صدقها تبقى أعمق من كلّ تلوين.
لم يعتمد تدوين هذه الشهادات وثائق مكتوبة، ولكن وجوه بشر، بعضهم رقد بالربّ وما زال طيبه يتضوّع، وبعضهم الآخر ما يزال حيًّا يجاهد في الكنيسة والعالم. كلّهم معًا لا يعرفون قراءتنا هذه. ولا أحسب أنّ تواضع الأحياء منهم سيسمح لأحدهم بأن يعتقد، إذا وقعت هذه الصفحات بين يديه، أنّ ما يقرأه ينطبق بعضه عليه، أو أنّه هو المقصود. نحن قرأنا، من دون علمهم أو إذنهم، حبّهم لله واجتهادهم في سبيل كنيسة غالية على قلب الله وقلوب أبنائها. ولقد استندنا، تاليًا، في عملنا هذا، إلى ما رواه بعض الإخوة المختبرِين الذين عرفوا خبرات بارّة صعقهم صدقها. ولمن ساعد بأيّ من هذه الشهادات، إن بالتذكير أو الإيذان، شكرنا العميق، ورجاؤنا أن يكافئه الله على خير ما فعل.
ما يجب تأكيده هو أنّ بغيتنا من هذه المحاولة كانت، حصرًا، تبيان الثابت، أي أنّ قداسة الله هي التي تفعل في من قادهم الروح القدّوس إلى الإيمان بابن الله ربًّا ومخلّصًا. فنحن، في الواقع، لا تهمّنا "رغبة بشر"، ولكن ما أراد الله أن يدلّنا عليه من طريق أناس أوفياء خبروا الحقّ، وسعوا إلى أن يُظهِروا نوره، في العالم، في أقوالهم وتصرّفاتهم. فنحن نؤمن بأنّ الإله الكلمة "المولود من الآب قبل كلّ الدهور"، قد "نزل من السماء وتجسّد". ومعنى إيماننا كاملاً أنّه هو نفسه بات حاضرًا معنا باستمرار. فإذا كان الكلمة "تجرّد من ذاته متّخذًا صورة العبد، وصار على مثال البشر، وظهر في هيئة إنسان" (فيلبي 2: 6 و7)، و"سكن بيننا" (يوحنّا 1: 14)، في زمان ومكان محدّدين، فهذا لا يعني، لنا، أنّه تركنا يتامى بعد رجوعه إلى أبيه ممجّدًا (يوحنّا 14: 18)، أو أنّه حدّ ظهوره في زمان تنازله العجيب ومكانه. فللربّ حضورٌ دائمٌ لا ينقطع، ولن ينقطع أبدًا. هو نفسه أطلّ علينا "في ملء الزمان" (غلاطية 4: 4) ليبقى "معنا طول الأيّام إلى نهاية العالم" (متّى 28: 20)، ولا سيّما في وجوه أحبّائه. وهذا عينه يعني أنّ المسيح هو الذي يدلّ على نفسه في الودائع التي سلّمها لعبيده الأمناء. أي هو الذي يحيي الكنيسة، ويقودها، في المدى والتاريخ، قبل أن يستقبلها في "الدهر العتيد". فللمسيح، من إتمامه "التدبير الذي من أجلنا"، قَصْدٌ. وقَصْدُهُ أن نعود، ويعود العالم كلّه، إلى الله أبيه. وهذا ما ينفكّ يعمله بروحه القدّوس.
من يقرأ يعرف أنّ لكلّ أدب منافعه وخطره. فقد نقرأ ما ينفعنا وننتفع، ويبقى أمر ما عرفناه على أَسَلَةِ لساننا. وهذا واجب، أو حقّ الله علينا. ولكنّنا قد نقرأ وننكر حقّ ما قرأنا. أو قد نقرأ ونستهزئ بما مرّ أمامنا من كلمات حيّة ومواقف محيية. وقد نقرأ ونيأس من أنفسنا. وكلّ إنكار واستهزاء ويأس خطره فادح وفتّاك، لأنّه، ببساطة كلّيّة، يشوّه تدبير الله الخلاصيّ، ويسيء إلى قدرته وفعله في هذا الوجود. ومن قرأ التراث المسيحيّ يعرف أنّ آباءنا القدّيسين نبّهوا إلى هذه المخاطر وضرّها، وأنّهم، في سلوكهم المبرور وتعاليمهم المنيرة، رسموا لنا ما يساعدنا على تجنّب كلّ خطر. ويحلو لنا أن ننقل ما كتبه أبونا البارّ يوحنّا السلّميّ، في مؤلَّفه الشهير "سلّم الفضائل"، ردًّا على الخطر الأخير المذكور هنا، إذ قال: "من يسمع أخبار فضائل القدّيسين الفائقة الطبيعة، وييأس من نفسه، يكون كثير الغباوة. لأنّ هذه الأخبار من شأنها، بالعكس، أن تفيدك جدًّا بأحد أمرين: فهي إمّا تحثّك على مماثلتها بشجاعة مقدّسة، أو تأتي بك إلى معرفة نفسك معرفة جزيلة، وتاليًا إلى تأنيبها بتواضع مثلّث القداسة، إذ تُظهر لك عمق ضعفك" (26: 126). وهذا الكلام المربّي لا يخصّ، حصرًا، أخبار القدّيسين الذين أعلنت الكنيسة قداستهم رسميًّا، ولا الأخبار، أو الأقوال الحكيمة التي نجدها في الأدب النسكيّ فحسب، ولكن أيضًا كلّ همسات الروح وهبّاته المقدّسة. وتبقى المنفعة، وحدها، رجاء كلّ قراءة صالحة. وهذه لا تحصل بمجرّد القراءة. القراءة الصالحة، لمحبّي المنفعة، تستدعي التمثّل، أو تعلّم الحكمة المقدّسة، أي، باختصار، تستدعي التوبة. وهذا، لا شكّ، ممكن إن صدّقنا الله، وآمنّا بفعله في العالم، وفينا، واتّكلنا عليه اتّكالاً كلّيًّا. فما يفعله الله، ويدلّ عليه، هو مَنْ يحقّقه في المثال، وفي مَنْ شاء، حرًّا، أن يتمثّل به.
معنى ذلك، عمليًّا، أنّ الله، الذي يطلب أن نحذو، في حياتنا الحاضرة، حذو الأبرار والمخلصين، هو الذي يساعدنا على ذلك، أي هو الذي يتوب علينا، إذا تبنا نحن، بصدق، إليه. وهذا، أيضًا عمليًّا، يتطلّب أن يعرف كلّ واحد منّا انحرافاته، ويعمل ما هو عكسها. فشرط الحياة البارّة، أو مماثلة الأبرار والمخلصين، هو ضرب كلّ هاجس يعترينا، أو كلّ وحي غريب، بفضائل الله المنجّية. هذا ما أكّده القدّيس يوحنّا الذهبيّ الفم، بقوله: "فإن قلتَ: إنّي أفعل جرائم كثيرة، ولا أعلم كيف الخلاص منها. قلتُ أنا أرشدك إلى مسالك الخلاص. وذلك بأن تستحضر خطاياك أمامك، وتعدّدها. ثمّ تهرب من سماجتها، وتقرع باب رحمة المسيح بالبكاء والندم والتوبة والصوم والصلاة والعفّة والطهارة والمحبّة والرحمة وأمثال ذلك. ثمّ تتذكّر واحدة واحدة من أنواع خطاياك، وتسارع إلى العمل بأضدادها" (عظة مرتّبة على فصل ركوب السفينة).
في ترتيبنا هذه الشهادات، لم نقصد وضعها بحسب الأهمّيّة. فكلّ شهادة لها، عندنا، أهمّيّتها ومنفعتها. ولكنّ ترتيبها فرضته الذاكرة، أو المفاجأة، أو تاريخ النقل المرويّ. وما سيلاحظه القارئ، في متابعته هذه الصفحات، أنّ هذه الشهادات لم تحمل اسم أحد من الناس الذين نشر الله بهم "شذا معرفته"، وكانوا عنده "رائحة المسيح الطيّبة" (2كورنثوس 2: 14 و15). وذلك بأنّ الغاية، من جمعها ونقلها، كانت كشف المحبوب وحده، أي الدلالة على الله وحكمته وعجائبه التي يفعلها هو في خلقه. وأمّا الأسماء القليلة، التي ذكرناها، فهي، في الواقع، أسماء رمزيّة رسمناها لضرورة الكتابة ولدعم معاني العبرة. فإخفاء كلّ اسم يضمن الخفر المنجّي. وهذا، كما نرى، ضرورة ملزمة، حتّى لا يشوَّه الهدف، أو "تهتك مطارحات العشق". وما سيلاحظه القارئ أيضًا أنّ هذه الصفحات تسجّل شهادات لأناس من أعمار مختلفة. وهذا يبيّن، جليًّا، أنّ الالتزام لا يخصّ عمرًا دون آخر، أي الكبار في السنّ فحسب، كما يظنّ بعضٌ. فالله يطلب جميع شعبه ليعبدوه وحده، ويظهروا، في حياتهم، أنّهم تلاميذه.
نحن لا ندّعي أنّ هذه الشهادات تدلّ على قداسة ثابتة في الأشخاص الذين ظهرت فيهم. ولكنّ هذا لا يعني، لنا، إنكارًا للقداسة كلّيًّا. صحّ أنّ الله هو من يطلب القداسة، ويحقّقها في هذا الوجود. ولكن صحّ أيضًا أنّ الله، الذي يحفظ لنفسه ما يشاء، لا يعلن القداسة، في يومه، قبل أن يمهّد لها، أي قبل أن يكشف الحجاب عن وجه المؤمنين الذين تجاوبوا معه، وثبت هو فيهم، أو ثبتوا هم فيه. وهذا يعني أنّ للقداسة أيضًا حضورًا، وحضورًا دائمًا. وهي، بالتأكيد، لا تقوم، أو تثبت، إلاّ في من قبلوا النعمة دائمًا. والنعمة معطاة. وهذا، للأسف، لا يفطن إليه الكثيرون. فالكثيرون بيننا يحيون حياتهم عبثًا. ويظنّ بعضٌ، ملتزمًا، أنّ القداسة مستحيلة على الناس، أو قلْ: أقلّه عليه. فكثير من المؤمنين حصروا القداسة في فئة، أو اتّهموا الله، من حيث يدرون أو لا يدرون، بأنّه محابٍ للوجوه. القداسة الجماعيّة لا يؤمن الكثيرون بها. وإن أعلنها بعضٌ، مثلاً، كلّما تلا دستور الإيمان، أي كلّما قال: "وبكنيسة واحدة جامعة مقدّسة رسوليّة"، فإنّه قلّما يصدّق ما يقول! وفي أحسن حال يظنّ أنّ المقصود هم الأبرار والمخلصون الذين سبقونا. القداسة الآنيّة مهملة، أو مؤجّلة. لا لأنّ المؤمنين لا يعرفون المطلوب. ولكن لأنّهم يعرفون أنّ الله متطلّب. والناس، في هذا الجيل، لا يحبّون المتطلّبين. هم، في علاقتهم مع الله وبعضهم مع بعض، يحبّ كلٌّ منهم أن يطلب. وهذا، في الواقع، هو عمق المشكلة التي تجعل بعضًا يعتقد أنّ القداسة لا تخصّه، أو أنّها تخصّ الماضي السحيق.
هؤلاء الناس المذكورون في هذه الصفحات، إن صدّقناهم، يفضحون كلّ خلل، أو ضعف، أو انحراف فينا. ولربّما يكون هذا من أجمل وجوه القداسة وفعلها في الناس. فالقداسة لا تحقّق ذاتها، فينا، إلاّ إذا عرّتنا كلّيًّا، وقبلنا أن نرتدي "حلّة العرس" التي وهبنا الله إيّاها. ثمّة أناس يحذون حذو الجدّين الأوّلين، أي يصطنعون لأنفسهم مآزر من أوراق الشجر، وثمّة أناس يستترون بالنعمة، أي "يلبسون المسيح" (غلاطية 3: 27). وثمّة أناس يعتنون طيلة حياتهم بأن يكونوا جميلين من الخارج، وثمّة من يهمّهم جمالهم الداخليّ الذي "يتجدّد يومًا بعد يوم" (2كورنثوس 4: 16). وثمّة أناس يهمّهم أن يظهروا للعالم أذكياء ومميّزين، وثمّة من قبلوا أن يكونوا "حمقى من أجل المسيح" (1كورنثوس 4: 10)، ليسكنهم هو، ويجعلهم هم أيضًا "قدرة الله وحكمته" في العالم. وثمّة أشخاص يسعون ليبقوا خالدين في الأرض، وثمّة من يهمّه أن "يُكتَب اسمه في سفر الحياة" (فيلبي 4: 3؛ رؤيا يوحنّا 3: 5).
كلّ قضيّة قبول القداسة، أو الشهادة الراضية لله في العالم، عصبها الجهاد. وهذا غير ممكن من دون قرار شخصيّ جريء. ألم يقل الربّ: "منذ أيّام يوحنّا المعمدان إلى اليوم ملكوت السموات يؤخذ بالجهاد، والمجاهدون يختطفونه" (متّى 11: 12)؟ وقوله هذا يتطلّب إيمانًا شخصيًّا بالله وتفضيله على كلّ ما في الوجود. فالقداسة لا ينطبق عليها نظام العدد. القداسة الجماعيّة، التي أتينا على ذكرها قبلاً، لا تُفهم فهمًا صحيحًا إن لم يتبنّاها كلّ مؤمن شخصيًّا. القداسة الجماعيّة هي، في عمقها ومداها، قداسة شخصيّة. ومعنى ذلك، في تبسيط سريع، أنّ الإنسان المؤمن لا يليق به أن يعتبر أنّ شرط تنفيذه مشيئة الله مرتبط بغيره، أو بتنفيذ غيره. فقد يكون هناك مؤمن وحده، في محيطه (وأجترئ على القول: في العالم كلّه)، يتّقي الله، و"يعبده بالروح والحقّ"، الله، في هذا الوحيد التقيّ، يقول قداسته ببلاغة كاملة. هذا يجعلنا نذكر أنّ بعضنا ظنّ يومًا، وربّما ما زال يظنّ، أنّ الكنيسة كانت، في هذا العصر أو ذاك، كلّها ذهبيّة، أو كلّها متأجّجة بالروح. وهذا، إن قبلناه فرضًا، لا يستقيم فهمه، إلاّ إذا اعتبرناه رجاء من قراءة التاريخ، أو حثًّا ينفع الحاضر. ولكنّ الحقيقة أنّ كلّ عصر كان فيه أشخاص ذهبيّون. الإنسان، في كلّ زمان ومكان، هو من يقرّر، حرًّا، أن يتجاوب مع الله ليكون ذهبيًّا، أو أن يحيا على هامش الوجود الحقّ، ويكون "خشبًا، أو هشيمًا، أو تبنًا" (1كورنثوس 3: 12). هذا لا يعني أنّ القداسة لا تقدر على أن تحقّق ذاتها، في جماعة ساعية، تحقيقًا كلّيًّا. فابن الله مات من أجل قداسة العالم كلّه. وهذه، في الواقع، هي إرادته الوحيدة في كلّ جيل (1تسالونيكي 4: 3). ولكنّ تحقيق القداسة كاملاً يفترض أن تقبل جماعة الناس ما أراده الله لها بحرّيّة ورضى، وأن تجاهد في سبيله، وتبقى وفيّة لأصره. إذ لا ينفعنا أن يطلب الله خلاصنا، ويحقّقه، ولا نوافقه. فثمّة قبول بشريّ لإرادة الله حتّى يستحقّ المطيعون الأحرار أن يكونوا أبناء الله، ويعترف هو بهم في يومه القريب.
هذه الشهادات المنوّرة، التي سمح الله بأن نعرفها وندوّنها، هي، بالتأكيد، بعض ما هو موجود. ولله، وحده، المجد على كلّ أفعاله الخلاصيّة، وعلى الخير الكثير الذي يعرفه هو، ويرى أنّنا لا نستحقّ أن نعرفه.
ما يبقى، أخيرًا، أن نطلب العفو من الله إن كنّا تجرّأنا، أو أسأنا إلى سرّ ما كان علينا البوح به. فهذا لم يكن قصدنا من هذه المحاولة. قصدنا كان أن نشكر لله إطلالاته وفعله المحيي في من سكنهم، أو سكنوه، وقالوا حقّه وطهره في هذا "العالم السقيم". قصدنا كان أن نذكر عيونَنا الجافّة، ونحثّها على مصالحة الدموع. وقصدنا كان أن نشهد لله في "كلّ مواضع سيادته"، حتّى نحسن الرجاء، ونتوب إليه بصدق، ويجعلنا من شهوده، لتكون لنا قيمة في عينيه اللتين تعرفان كلّ شيء، ويرتسم على وجوهنا، من نوره، نورٌ لا نستحقّه.