قال لي، يومًا، أحد الذين لهم فضل كبير على قلبي: "لا تقوم كتابة حقيقيّة من دون ضغط".
هذه أوراق قادني إلى وضعها ضغطٌ خاصّ أقلقني، وما نتج منه، شهورًا عدّة. إنّها موجّهة إلى ابني أوّلاً. ولكنّ أمورًا كثيرةً، تقضّ مضاجعَ تحبّ الله، تجعلني أرجو أن تُعتبر هذه الأوراق الخاصّة أوراقًا عامّة. ويمكن أن يرى القارئ أنّ مواضيعها المتنوّعة فرضتها دوافع التربية التي أساسها المحبّة. "والمحبّة ديننا"، كما ورد في هذه الصفحات جهارًا. ولا يُقصَد بـ"ديننا" النظم التعليميّة فحسب، بل السلوك الراضي أيضًا، أو شخص الابن المتجسّد الذي هو ديننا ومثالنا في كلّ شيء. فالربّ أحبّنا حبًّا لا يوصف، لنحذو حذوه، ونكشف مجده في الأرض، ونستقرّ فيه أبدًا. ونحن إن أتينا منه، ويجب أن نأتي، فإنّما نفعل، حتّى لا تحكمنا شهواتنا الفارغة، أو يحرّكنا إلى قبولها جوّ مريض يكاد يسيطر على مجتمعنا. فالربّ هو، وحده، "الكامل" الذي "يبطل كلّ ما هو بعض"، لنمشي في إثره إليه. نقول قوله، ونلتزمه، ونرجو أن يلتزم الكلّ محبّته وحدها دينًا.
إذًا، من هذا القصد، الذي فسّرْنا فيه المحبّة هنا، يجوز القول إنّ الإنسان يتربّى، أيضًا، فيما يربّي سواه. أو، بكلام أعمق، يجب القول إنّه يتربّى فيما يلتزم ربّه مثالَ حياة. فأنت، واقعيًّا، لا تقدر على أن تربّي أحدًا، أيًّا تكن صلة القربى التي تجمعك به، إن لم تتّخذ يسوع ربًّا ومخلّصًا. تربّي، أي تسعى، أيًّا يكن موقعك، إلى أن يكون الله مثالك الذي تقود مَنْ تحبّهم إليه. فإن وصلوا وثبتوا فيه، يمكنك أن تقول: قد تربّوا.
لم تضمّ هذه الأوراق مواقف حفظتها الذاكرة فحسب. فهناك عناوين فرضتها أوضاع آنيّة. وهناك أخرى جاءت بها أفكارٌ زَرَعَها الله، في حياتنا، نورًا لحياتنا. وأريد أن أعترف بأنّ ثمّة عنوانًا واحدًا، يمكنني أن أعتبره أبًا لسواه، هو الذي ساقني إلى كتابة هذه الأوراق. وهذا عنوان قد يكتشفه القارئ بسهولة. وسأتركه يفعل. وإن حلا لبعضِ مَنْ سيدخلون على هذه الصفحات أن يسهّلوا على أنفسهم أمر البحث، ويعتبروا كلّ عنوان آخر أبًا لسواه، فيفرحني هذا الاعتبار، وأبدي، في هذا التمهيد، موافقةً عليه.
لقد كُتبت هذه الأوراق في خريف العام الـ2008. فهذا خريف أتى بعد صيف مَرّ عليَّ حارًّا جدًّا. ولولا محبّة الله التي لا توصف، لَمَا عرفتُ كيف كانت أموري ستؤول. فالله، الذي نحيا من خيره الكلّيّ، هو مَنْ تدخّل، وحوّل نار صيفي إلى ندًى. لقد رمى الله عليَّ، كعادته، وشاحَ رحمةٍ لا أستحقّها. وذكّرني بأنّه القادر، بحضوره الثابت، على كلّ شيء دائمًا. وَعَبَرَ الصيف. وَعَبَرَ لهيبه معه.
لم تأخذ كتابة هذه الأوراق وقتًا طويلاً. هذا، إلى اعترافي بعطف الله وجوده، يمكنه أن يدلّ على أنّ الضغط، الذي قادني إلى إنشائها، كان غايةً في الإلحاح. ولشعوري بأنّ ما مررتُ به يمكن أن يمرّ به آخر، أردتُ أن أترك ما خبرتُهُ على ورق حبًّا بإخوة أرجو لهم الخير كلّه. وهذا، الذي بيّنتُهُ قَبْلاً، لا يغيّر ما قلتُهُ عن أنّني وجّهتُ هذه الصفحات إلى ابني أوّلاً. فابني هو واحد مِمَّنْ أدعو لهم بأن يكبروا، ويُحسنوا، في هذا العالم الممرِّر، أن يقطفوا، دائمًا، ثمار الخير الطيّبة من بستان الله الذي هو كنيسته الغالية. فلابني، أكرّر، أترك، أوّلاً، كلماتٍ على ورق حبًّا بخير أريده له دائمًا، إن عرف أن يحفظ نفسه في التزامِهِ كنيستَهُ التي هي حياتنا جميعًا. وإن نفعت هذه الأوراق أشخاصًا آخرين، فليس لي سوى أن أشكر لله، الذي هو أبونا جميعًا، أنّه ما زال يتعهّد ترابنا.
ثمّ يعنيني أن أعترف، أيضًا، بأنّ أفكارًا كثيرةً، وردت في غير ورقة، يعود الفضل فيها إلى بعض إخوة معتبَرين أناروا سبيلي بحكمتهم العالية. فَمَنِ اختبر الكتابة، لا يصعب عليه أن يعرف أنّ ما يكتبه، أو أنّ معظم ما يكتبه، إنّما كتبه آخرون على لوح قلبه قَبْلاً. الكاتب، في معظم الأحيان، ورقة بيضاء خطّت عليها المحبّة، محبّة الله أو محبّة الإخوة، حروفها الذهبيّة. يَكتُب، أو يُملى عليه، لا يقدر على أن يميّز دائمًا. ويرجو، لاعتبارات عديدة، أن يعتبر أنّه يُملى عليه. فهذا يعطيه، إن كَتَبَ، أن يقرأ ما يكتبه كما لو أنّ كاتبه آخر، ويلتزم المكتوب قارئًا عاديًّا. فخير اعتبار عمّا أقوله، إذًا، أن يرى الكاتبُ نفسَهُ قارئًا. هذه الرؤية هي التي تشرّع له أن يأتي بأوراقه، ويمسك قلمًا بيده، ويخطّ ما يرجوه من منفعة. فأنت، كاتبًا، إنّما يجب أن ترى نفسك تحت كلمات تحضّك على أن تترك الصدأ الذي تراه فيك، وتختار الحقّ نصيبًا، أو، إن كنتَ من محبّيه، على أن تثبت فيه كما الغصن في الكرمة. ليس من اعتبار أعلى يجعلك قادرًا على أن تسهم في خدمة الحقّ في مجتمع يعوزه أن يعرف الحقّ كثيرًا. أن تنادي آخر تحبّه إلى عمل الخير، لهو أن تنادي نفسك معه، أو تناديها أوّلاً. الكتابة لا يشرّعها أمر كما أن تحثّ قلبك على طاعة الحقّ باستمرار. وإن ساورتك نفسك أن تعلّي خطايا سواك، فاعرف، إن لم تجعل نفسك أمامه، فلن تستطيع أن تصوغ عباراتٍ تريدها أن تعبّد سواء السبيل. ليس في التربية، ولا سيّما المسيحيّة، من تذكير للآخرين لا يأتي قَبْلَ تذكير للذات. كلّ تذكير أساسه تذكير الذات أوّلاً. هذا لا يعني أنّ ما يكتبه المرء، أو يقوله، إنّما يكتبه كلّه بعد تجاوز، بل يعني أنّ كلمة الحقّ هي فوق الجميع دائمًا.
هذا يجعلني أؤكّد أنّ كلّ تربويّ يعرف، أو يجب أن يعرف، أنّ لكلّ مَنْ يسهم في تربيتهم أُذنيَنْ وعينَيْن وفمًا ويدَيْن ورجلَيْن، أي أنّهم أشخاص لا يُختزلون. من هذه القناعة التي لا بديل منها، أنت، أبًا (أو معلّمًا أو كاهنًا)، إن صوّرتَ لابنك (أو لِمَنْ هم معك وإليك) الحقّ بألفاظ، فانتظر، إن لم يرَكَ تسلك بموجبه، أنّه، عمومًا، سيسمعه كما لو أنّه لم يسمعه. يحتاج المرء إلى أعجوبة حقيقيّة، حتّى يطيع ما لا يراه فعلاً. فالتربية، في جوهرها، اقتداء. لم يُعطَ أيٌّ منّا أن يقود مَنْ يلوذون به غصبًا عن إرادتهم. هذا، إن جرى، تسلّط لا ينشئ سوى عبيد. فالمربّي، الذي يُرى ما يقوله مرتسمًا على وجهه، هو الذي يسهم في إنشاء أحرار ينفعون العالم. ولربّما هذا أعلى ما يجب أن نضعه أمامنا في أثناء عملنا التربويّ. في الدنيا، ثمّة متسلّطون كثيرون في غير موقع. وهؤلاء مشكلتهم الحقيقيّة أنّهم يعتبرون، ممّا يعتبرون، أنّهم سيحيون أبدًا. يعوز التربية الصحيحة أن ندرك، دائمًا، أنّنا قوم لن نخلّد في الأرض. يعوزها أن نرى قبورنا مفتوحةً أمامنا الآن. ما من أمر، كما ذكر الموت، يصحّح الإنسانيّة التي تبتغي أن تكون فاعلةً في هذا الوجود. وهذا كلّه يعني أنّ التربية تلزمنا أن ندرك أنّ الربّ هو الباقي وحده.
يعلّمنا التراث المسيحيّ أنّ الإنسان، مسؤولاً، إنّما شأنه أن يُولِد أشخاصًا في المسيح. هذا معنى الأبوّة الذي ثبّته رسول الأمم بقوله لمؤمني كنيسة كورنثوس: "فقد يكون لكم ألوف الحرّاس في المسيح، ولكن ليس لكم آباء عدّة، لأنّي أنا الذي ولدكم بالبشارة، في المسيح يسوع" (الرسالة الأولى 4: 15 و16). وإن عكسنا هذا على علاقتنا بأولادنا، فيعني أنّنا، إن قدرنا على أن نقدّم لهم خيرات الأرض كلّها من دون أن نلتزم هذا المعنى، يكون كلّ ما فعلناه باطلاً. فـ"باطل الأباطيل، يقول الجامعة، باطل الأباطيل، كلّ شيء باطل" (1: 2). الله، وحده، هو موضوع الوجود ومضمون الوجود وغاية الوجود. وهذا، بكلامٍ لا يختلف، يعني أنّ الإنسان يُولد إن وُلِدَ في المسيح فحسب.
أترك، إذًا، هذه الأوراق الخاصّة فيما أرجو أن يدرك أبناء الناس جميعًا، ومعهم مَنْ خرجوا من صُلبي، الحقّ المنقذ، ويثبتوا فيه. كلّ ورق يبلى. أمّا ما لا يبلى، فهو أن نحبّ الله من كلّ قلبنا ونفسنا وقدرتنا وفكرنا، وأن نحبّ بعضنا بعضًا والناس جميعًا كما نحبّ الله تمامًا. هذه هي مشيئة الله التي كتبها روحه على لحم قلوبنا، لنقرأها، ونحيا اليوم وغدًا.