في اليوم التالي، صعد إلى فوق. أغراه العطر الذي يتضوّع من الشرفة التي تُنعم. فعرف، من إحدى "الموظّفات" التي تخدم في الطبقة العليا، أنّ شيخهم، في الداخل، وحده. سألها إن كان يمكنه أن يدخل عليه. وأذنت له.
فتح الباب. لم يره. لكنّ صوته وصل إليه. وفَهِمَ أنّه يردّ على مكالمة هاتفيّة من غرفته التي تتفرّع من قاعة الاستقبال. دخل. وقعد في مكانه. وانتظر أن ينتهي.
كانت الشمس قد أسدلت شعاعها الذهبيّ في كلّ أرجاء الشرفة. فبدت كما لم تبدُ له يومًا. رأى أوراقًا هنا وهناك، وكتبًا قَدَّر أنّ بعضها مشغول بالغيظ!، وأنّ بعضها الآخر لمّا يُختم، لينصَّب على أحد رفوف المكتبة. ورأى جرائد عربيّة وأجنبيّة ومجلاّت لمح من بينها "مجلّة النور". الشرفة، كما هي، مجموعة كراسٍ، بعضها للزوّار (إن كان عددهم قليلاً)، واثنتان منها لشيخهم، واحدة يقعد عليها في استقباله ضيوفه، والثانية، خلف مكتب صغير، يستعملها، على الغالب، في أوان الكتابة. وهذا، إلى جانب المكتبة التي تقع وراء كرسيَّيْه، معظم أثاثها. وبينما كان غارقًا في تأمّله في هذا المشهد الجديد!، خرج أسقفهم. حيّاه. وباركه. وقعد. وشرع يتكلّم.
كان هو يصغي. أذناه معه، وعيناه تجولان في أرجاء المكان الجديد!
كان قد أخذ يعرف أنّ شيخهم لا يحبّذ أن "يعبث" أحد بأشيائه الخاصّة، فيغيّر له مكانها "الطبيعيّ". وتصوّر أنّها هي، أيضًا، لا تحبّذ! وليس لا تحبّذ فحسب، بل ترفض أيضًا. ترفض، رفضًا قاطعًا، أن يمدّ أحدٌ آخر يده عليها! خيّل له أنّها، لو كانت قادرة على الكتابة، لكتبت: "ممنوع اللمس". شعر بأنّها تخاف من أن يفعل أحد غيره، فيفقدها "ترتيبها"! تريد أن تبقى كما هي. ما هو فوق، هو فوق. وما هو تحت، هو تحت. وما هو بين فوق وتحت، هو ما بين فوق وتحت، وما هو هنا وهناك، هو هنا وهناك. هي تعرف أنّه هو مَنْ وضعها هكذا. وما على أحد أن يدخل بينه وبينها. ما يحسبه الناظر "بعثرة"، هو، في واقعه، اتّفاق بينه وبين أشيائه، اتّفاق تفرضه ضرورات العمل، العمل الدائم. بعض الأوراق لاحظ أنّها ما زالت بيضاء. وتأمّل، سريعًا، في بياضها. وفكّر في أنّه زائد، بياض زائد. "هل هي، شديدة البياض، تنتظر دورها، ليمسكها بيده، ويُعمل فيها قلمه، أو "خوفًا" من أن تفقد، متى استعملت، موقعها؟!".
كان شيخهم يتكلّم. وكان هو يُلقي إليه السمع، ويرى.
قَبْلَ مرضه الأربعينيّ، سأله، في إحدى زياراته، عن الوقت الذي يتسنّى له أن يكتب فيه. هذا سؤال أعدّته معرفتُهُ بالتزام شيخهم الكتابة الدائمة (أسبوعيًّا، في إحدى الجرائد مثلاً)، وتاليًا أفواج المؤمنين الذين كان يراهم ينتظرون في الخارج، ليدخلوا عليه. ويذكر أنّه قال له ببراءته المعهودة: "أحيانًا أخصّص الوقت، وأحيانًا أفعل في الليل"، وأنّ هذا القول "جاز، في نفسه، كالسيف"!
كان شيخهم يتكلّم، وكان هو يسمع، ويذكر، ويرى.
يرى أشياءه "المبعثرة". ويراه، في أوقات "فراغه"، ينحني على الأوراق، ويدوّن عليها ما يوحي الله إليه به. الكتابة وحي، أو معظمها كذلك، وحي يسبقه انحناء (يوحنّا 8: 8). هذا أمر يثبته المكتوب، ولا سيّما ما تخطّه يد شيخهم. لم يشكّ في أنّ يد الله، في أوان الكتابة، تنزل، وتمسك بيده. فالوحي هو أن تعطي، كاتبًا، الله يدك، أو أن يمسكك هو بيدك إن رآك نافعًا لذلك. بعيدًا من يد الله، تغدو الكتابة رصف كلمات فارغة لا علاقة لها بضرورات التبليغ.
مرّ هذا بباله، واستعاد الحوار الذي أجراه أستاذُ شيخهم معه إثر تخرّجه، الحوار الذي طلب منه فيه أن يبقى معهم ويعلّم. فهذا الأستاذ، بعد أن سمع إصرار تلميذِهِ على الرفض، أوصاه بأن يكتب. قال له ما مضمونه: "إنّ مَنْ يكتب، يبقى"! هذا هو نهاية الحوار. لم يخطر بباله أنّ ذلك الأستاذ كان يقدّم هذه الوصيّة لكلّ تلميذ من تلاميذه. فهو لا بدّ من أنّه رأى مواهب مَنْ يوصيه، فدلّه على سبيل من سبل إنمائها. فالكاهن دوره الأوّل أن يرعى المؤمنين. والكلمة، التي يعلّمها قولاً أو كتابةً، تُبقي التواصل بينه وبينهم. وقد يتلقّفها الناس في غير جيل. وهذا يساهم في بقائه. لقد مرّت على هذه الوصيّة سنواتٌ طويلة. وما دام شيخهم قد ذكرها منذ فترة وجيزة، فهذا يعني أنّها ما زالت تحفر في قلبه. لم يتصوّر أنّ شيخهم ينفّذ ما أوصي به، ليبقى. لكنّه اعتقد اعتقادًا راسخًا أنّ الربّ يريده أن يفعل، لنبقى. بلى، قد يذكره التاريخ، في عهوده الآتية، على أمور كثيرة عملها الله عن يده. طيبه المتضوّع لن يخفيه دهر. وعلى ذلك، لم يشعر بأنّ شيخهم يعنيه أن يذكره تاريخ بشر. كان شعوره الثابت أنّه يحيا على رجاء أن يشتمّ مسيح الله العطر الذي مسحه فيه، "ويحصيه بين تلاميذه في يوم القيامة"[1].
كان شيخهم يتكلّم، وكان هو يسمع، ويسرح، ويرى.
لم يرَ، في هذه الزيارة الجديدة، أوراقًا مطويّة الجانب. يبدو أنّ موظّفي الدار قد حفظوا ما قاله لهم يوم استدعاهم جميعًا، ليلومهم على تقديمهم له أوراقًا مطويّة. قال لهم يومها: "أنا أعرف قيمة الأوراق. وعليكم أن تحترموا ما أعرف". تذكّر تلك الأوراق. وفكّر في حالها بعد أن حملها الموظّف، وعاد بها إلى الخزانة! هل فرحت تلك الأوراق باحترامه إيّاها، أو أنّها "حقدت" عليه لكونه أبعدها عنه؟
كان سيّدهم يتكلّم، وكان هو يسمع، ويخاطب نفسه، ويرى.
ثمّ انتهت الزيارة. ونزل هو إلى غرفته، إلى أوراقه المكتوبة.
نزل، ولم ينزل!
[1] رسالة القدّيس أغناطيوس الأنطاكيّ إلى بوليكاربوس 7: 1.