في توديع شيوخ الكنيسة في أفسس، قال الرسول بولس: "فتنبّهوا واذكروا أنّي لم أكفّ مدّة ثلاث سنوات، ليل نهار، عن نصح كلّ منكم وأنا أذرف الدموع" (أعمال الرسل 20: 31). وهذا القول، الذي جاء ضمن خطاب إرشاديّ طويل، كان همّ الرسول فيه أن يساعد الذين يخاطبهم على أن يثبتوا جميعًا بالحقّ، وأن يواصلوا ما قام به هو في سبيل "كنيسة الله التي اكتسبها بدمه" (الآية الـ28).
يعبّر هذا القول المربّي (الآية الـ31)، خير تعبير، عن عمل كلّ مسؤول في الجماعة الكنسيّة، وأيضًا عن عمل كلّ مؤمن قَبِلَ خلاص الله، وصحّ ضميره، والتزم التزامًا فاعلاً. فالخدمة، في الكنيسة، تفترض بذلاً كبيرًا وسهرًا موصولاً على مَنْ أحبّوا الله، وانتسبوا إلى "ملكوت ابن محبّته" (كولوسّي 1: 13)، وتحديدًا على كلّ واحد منهم. فشرطُ الخدمة الجماعيّة الراضية العنايةُ بكلّ واحد من المؤمنين. وذلك بأنّ الجماعة هي التي تتكوّن من أعضاء تلقّى كلّ منهم، شخصيًّا، العناية النافعة التي تساعده على الالتزام بوعي، والتقدّم في مسيرة الخلاص. ألم يقل الربّ، في مثل "الخروف الضالّ": "هكذا يكون الفرح في السماء بخاطئ واحد يتوب أكثر منه بتسعة وتسعين من الأبرار لا يحتاجون إلى التوبة" (لوقا 15: 3- 7)؟ كلّ خروف له أهمّيّته في قطيع المسيح.
لقد اعتنى بولس بأن ينصح كلّ واحد من المسؤولين في أفسس. وهذا ما أراد منهم أن يذكروه، ليعتنوا، هم أيضًا، بأن ينفّذوه مع المؤمنين جميعًا. أرادهم أن يعرفوا أنّ النصح رضًا وحماية، وأنّه حاجة ملحّة في ظلّ ظروف لا يغيّرها جيل. فالخطايا مغرية دائمًا. وأعداء الإيمان، الذين يوحون بخرافاتهم، موجودون في كلّ زمان ومكان، ويهدّدون المؤمنين الضعفاء. والناصح رقيب. والرقيب شأنه ألاّ يهمل نصحه، حتّى لا تتشتّت الرعيّة، فيفقد تكليفه. وما يلفت كثيرًا أنّ بولس، بقوله، لم يكتفِ بأن يشير إلى أنّه كان يعمل على نصح كلّ واحد منهم بكلامه فحسب، بل فيما "يذرف الدموع" أيضًا. وهذا قاله، لا ليوحي بأنّه يحتاج إلى شفقة أو عطف من الناس، ليرتضوا نصحه، ولا ليستميل أحدًا بدموعه. كلامه لا يمكن أن يعني هذا البتّة. لكنّه كشف سرّ قلبه، ليعلّم مَنْ يخاطبهم، ويعلّمنا نحن أيضًا، أنّ النصح، وإن خرج من الشفتين، فإنّما هو عمل القلب أوّلاً. كلّ كلمة راضية مصدرها قلب المتكلّم. "من فيض القلب يتكلّم اللسان" (متّى 12: 34). فالرسول يعرف، ويريد المسؤولين، في كلّ جيل، أن يعرفوا، ويسكبوا قلوبهم في رعاية الإخوة، ولا سيّما أن يصرفوا حياتهم في حماية المؤمنين ومحاربة الخطيئة التي، إن استفحلت، ترمي الساقطين بعيدًا من خلاصهم. إذًا، كان بولس يذرف الدموع، ليؤسِّس نصحًا حارًّا، ويبيّن، تاليًا، قربه من الذين يعتني بهم وبتقدّمهم. فالدموع دلالة على القربى. والكلام الطيّب المقرون بدموع دليل على الأبوّة الحقيقيّة.
كلّ مسؤول أب. نحن، في كنيستنا، نسمّي الكهنة آباء لا تغنّيًا بموقعهم، بل لكونهم يلدون أولادًا لله "بالبشارة في المسيح يسوع" (1كورنثوس 4: 16). ومن دلائل الأبوّة الصالحة أنّ الأب يعتني بأولاده دائمًا، أي يلدهم ببشارة الله. ومن دلائلها أنّه لا يميّز بين ابن وآخر. وإذا جاز له أن يميّز، فإنّه يفضّل العاقّ، ليعمل على إصلاحه. هذا ما أكّده القدّيس إغناطيوس الأنطاكيّ، بقوله: "لن يكون لك فضل إذا أحببت التلامذة الصالحين. روّض الأشرار، وأخضعهم بالوداعة" (أنظر: رسالته إلى بوليكربُس 2: 1). والأب لا يرعى أبناءه في صغرهم فحسب، بل يبقى أبًا لهم في كلّ وقت. لا يعني هذا أنّ الأب همّه، برعايته، أن يسيطر على أولاده، ويؤخّر وعيهم وتقدّمهم، أو أن يفقدهم شخصيّتهم. هذا من أخطار الرعاية غير الراشدة. لكنّه يعني أنّه يعتني بهم، ليساعدهم على أن يكتشفوا مواهبهم التي تنفعهم، وتنفعه، وتنفع الجسم الكنسيّ كلّه. بولس خَبِرَ، لمّا قال: "واذكروا أنّي لم أكفّ مدّة ثلاث سنوات، ليل نهار"، أنّ أحدًا لا يمكن أن يعي مواهبه وتكليفه ما لم يُتَعهّد تعهّدًا موصولاً، في الليل والنهار. النصح ليس إرشادًا طارئًا فقط، أو يعالج أزمةً عابرةً فحسب، أي إن أخطأ أحد الإخوة مثلاً، أو غرّه كلام الغرباء. فهذا يمكن أن يحدث باستمرار. وَمَنْ تقدّم بالرضاء، يحتاج، أيضًا، إلى تعهّد دائم، ليزداد تقدّمًا. المؤمن، إذا صحّ سعيه ونما حبّه وفهمه، إن أُهملت رعايته، فقد يزوغ أو يسقط، ولا سيّما إذا شعر بأنّه قادر على أن يتقدّم من دون عناية الإخوة. النصح المستمرّ ضمانة لكلّ تقدّم صحيح. الذين يعملون في الكنيسة يعرفون أنّهم كثيرًا ما كانوا يظنّون أنّ هذا أو ذاك كان يلتقط التعليم والإرشاد كما يلتقط الخبز مَنْ لم يأكل لأيّام عدّة، وأنّه هو ذاته ظهر، في هذا الموقف أو ذاك، كما لو أنّه لم تعلق بذهنه كلمة نصح واحدة. الذين صدمهم الناس يعرفون حقًّا قيمة ما قاله الرسول عن العناية الشخصيّة المستمرّة. والذين رافقوا تقدّم المتقدّمين يعرفون أيضًا.
قاعدة كلّ رعاية صحيحة أن نقتدي بما فعله الرسول في أفسس. فالجماعة لا تقوم من دون رعاية موصولة. والمسؤول، وكلّ مؤمن مسؤول، شأنه أن يسهر على الذين ائتمن على تقدّمهم بنصح، حتّى يصدق جهده، وينمو المؤمنون بماء عينيه، كما ينمو نبات الأرض بماء السماء.