حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة - مركز جبل لبنان
المؤتمر الداخليّ، ٦- ٨ تشرين الثاني ٢٠٠٩
مقدّمة
الكلام على "المرشد وصفاته" كلام يردّنا إلى فرح "المحبّة الأولى"، لا ليسكرنا الماضي، قريبًا أو بعيدًا، بل لننتفع منه، ونحاول، دائمًا، أن نخلص لِنِعَمِ الروح الذي أرادنا جددًا أبدًا.
إذا سمحتم لي بأن أجترئ على تقديم خبرة، قد يشاركني فيها بعضٌ منكم، فأقول إنّنا، عندما دخلنا الحركة، لم تأخذْنا جدّيّة التعليم فحسب (على أهمّيّته ورصانته)، بل أشخاص يعلِّمون. أخذتنا الرفقة الفاهمة والحاضرة والحاضنة والمبذولة. الإرشاد، كما بدا لنا، شخص أو أشخاص. وبكلام آخر، جذبتنا القدوة. ولا بدّ من أنّ بعضكم يذكر أنّ ثمّة إخوة، في مركز الجبل، من زمان ليس ببعيد، كانوا يطلقون على المرشد صفة "القائد". هكذا كان ينادى: "القائد فلان". فالمرشد قائد، أو قدوة، أي يقود نفسه ومَن معه إلى الله الحيّ.
قدوة
إذًا، صفة المرشد الأولى أنّه قدوة. مَن له عِشرة مع الأطفال الصغار، يعرف أنّ الطفل يحفظ - إذا قبلتم هذا التعبير - ما تقوله له في عينيه. فإن رآك، مثلاً، تتجاوز ما أوصيته به مرّةً، ذكّرك به في الحال. يسمعك، فيما يراك. يسمعك، أي يراك. وإن كانت المراقبة تجوز في مَثَلِ الطفل، لا أقول إنّها يجب أن تجوز، كيفما كان، في مَثَلِ المرشد. فنحن جماعةَ المؤمنين لا نقف على جانب الطريق، لنراقب مرشدينا، صدقَهم أو تجاوزَهم! نحن نساعد بعضُنا بعضًا في كلّ شيء. ولكن، ألم يقل بولس: "ألستُ رسولاً؟ أَوَما رأيتُ يسوع ربّنا؟ ألستم صنيعي في الربّ" (1كورنثوس 9: 1)؟ لا أحد يقدر على أن يتّهم الرسول، في ما قاله هنا، بالتباهي. حاشا! لكن أيضًا، ألا يمكن أن يعني كلامُهُ أنّه يعي نفسه في مرأى من جميع الناس؟ وفي الواقع، لقد قال هو نفسه في رسالته عينها: "قد صرنا معروضين لنظر العالم والملائكة والناس" (4: 9). إذًا، قال: إنّه رسول... وهذا الكلام، الذي يندرج في سياق الدفاع عن رسوليّـته، يريد منه، أيضًا، أن يشهد للحقّ، أي لإخلاصه لمَن رآه في برّيّة دمشق وغيرِها. وإذا أتينا من شهادته، فما من أمر يمنعنا من أن نعتبر أنّ المرشد، رائيًا أيضًا، قائم تحت نظر الله والإخوة. ومن دون أن أحسب أنّني أزكّي المراقبة، أو أدعو إلى المراءاة، هذا، إن فهمنا القدوة بمعنى القيادة، إمّا يجعل المرشد قائدًا كبيرًا للإخوة، أي جسرًا يحملهم إلى الله، أو يرميه بعيدًا من موقعه. فالإرشاد ليس أن نردّد ما نعرفه فحسب، بل فعلٌ يُرى دائمًا. فعلٌ يُرى، أي أيقونة. ويجب أن نرى، في كلام الرسول، أنّ الله هو مَن يقيم القادة في الجماعة. فأنت تقتدي بمَن ارتضى أن يقوده الله في "موكب نصرته"، أي في مَن يشير هو إليه. وهذا، استطرادًا، يعطينا أن نؤكّد أنّ الإرشاد لن يكون يومًا شأنًا يختاره إنسانٌ لنفسه. هذا، إن جرى، يشوِّه حقّ الكنيسة المواهبيّة التي تبيّن، وحدها، أنّ الله أعدّ لكلٍّ منّا نصيبه في الخدمة. لا أحد يقدر على أن تطمح عينه إلى مركز إرشاديّ. الله ينجبك لهذا الموقع، أو يكون قد أعدّك لغيره. ولذلك لستُ أرى صحيحًا أن تسمّى دورةٌ ما "دورة إعداد مرشدين"، إذا كان المقصود أنّ المرشد تعدّه الدورات (وهذا تتبعه اجتماعات الفرق المركزيّة كلّها). الدورات لا تعدّ أحدًا. الله هو الذي يعدّنا، ونجتهد نحن، لنوافق مشيئته بإخلاصٍ يرضيه. طبعًا، لست أنكر أنّ للدورات منافعها الكثيرة. لكنّها لا يمكن أن تجعلنا هي، بحدّ ذاتها، مرشدين بالضرورة. الله يجعلنا، قلتُ. ويجعلنا لا سيّما في فِرَقِنا التي هي من المواقع الثابتة التي فيها نعرف الله، ويعرفنا الله، ويعلّمنا أن نقود بعضنا بعضًا إليه. فمعنى القدوة الأخير، إلى ما يفترضه من جدّيّة ظاهرة، يتعلّق باختيار الله دائمًا. إذًا، الصفة الأولى أنّه قدوة. ويعنيني، كثيرًا، أن نأتي، في الكلام على القدوة، من قرار الله، وأن نمدّ حقّ القدوة في كلّ خدمة تُسند إلينا.
مثقّف
الصفة الثانية أنّه مثقّف. وأريد، فيما أتأمّل في هذه الصفة، أن أركّز على نقطتين محدّدتين. الأولى مصدر ثقافة المرشد. والثانية غناه الثقافيّ.
1 ً- في الأولى، للمرشد مصادر عدّة لثقافته، وهذه سأختصرها بثلاثة: 1) إنّه يأتي من تراثنا المبدع. 2) إنّه يتكلّم من خبرة شخصيّة. 3) إنّه يكلّم أشخاصًا محدّدين. وهذه المصادر لا يجوز اختزالها، أو إعلاء مصدرٍ على آخر. فإذا أسقطنا أيًّا منها، أسقطنا كلّ ما معها.
أ- يأتي من تراثنا المبدع.
من الضروريّ، أوّلاً، أن نؤكّد أنّ المرشد لا يبدأ، في ما يعلّمه، من نفسه. صحيح أنّه قد يكون له رأي في هذا الأمر أو ذاك، ولا سيّما في الأمور الطارئة التي لم تتبسّط الكنيسة في الكلام عليها، أو لم تحدّد موقفًا جامعًا منها. لكنّ شأنه الأعلى أن يشهد لربّنا وملكوته الحاضر الآتي، ولا سيّما أن يلتزم أمر العقيدة التي حدّدتها مجامعنا المقدّسة. قلت لم تتبسّط كثيرًا، ولا أقصد أنّ بعض رجالها لم يكن لهم رأي في بعض الأمور التي سمّيتها طارئة. وتعلمون أنّ الرسول قد أعطى رأيه في أكثر من موضوع جديد طُرح عليه. وإذا راجعنا قوله "وأمّا نحن، فلنا فكرُ المسيح" (1كورنثوس 2: 16)، أو: "وأظنُّ روحَ اللهِ فيَّ أنا أيضًا" (1كرونثوس 7: 40)، فيجب أن نعتقد أنّ أيّ أمر جديد، يطرح علينا، يفترض البحث فيه، حكمًا، أن نستلهم روح الله. وتبقى خير معرفة أن يعرف المرء ما قاله الله نفسُهُ، أي كلمته المقدّسة. وهذه، التي تؤكّد أنّنا شهود لحقيقة يسوع ربًّا ومخلّصًا، تفترض أن نعرف ما قاله آباؤنا القدّيسون فيها توضيحًا ومسلكًا. فكلمة الله، كما أُوصينا: تُشرح على ضوء "تقليد الكنيسة وتعليم الآباء في مؤلّفاتهم" (مجمع ترولّو، القانون الـ19). وهذه أيضًا، أي تعاليم الآباء، تؤكّد أنّنا قابلون شهادة يسوع في معانيها الممدودة. ومن صميم امتداد الكلمة، يجب أن يعرف المرشد، أيضًا، الأدب النهضويّ الذي تركه لنا المؤسِّسون ومَن اعتمدوا طريقتهم. وهذا، الذي أرجو أن يدرسه جميع أعضاء كنيستنا، أمر جدير بالحفظ، ولا سيّما بعد أن أصدرت "منشورات النور" كتابين عن الأدب النهضويّ (1: أنطاكية تتجدّد: شهادات ونصوص (1942- 1992)؛ 2: الحركة: ضياء ودعوة). لا أريد أن أخرج عمّا أتأمّل فيه. لكن، لا بدّ من أنّكم تعرفون أنّ هناك مَن يرى أنّ ثمّة بعض أمور قالتها الحركة، في سنوات خلت، تحتاج إلى إعادة قراءة. وهذا، مفهومًا، يفترض أن نعرف ما قلناه، ونحفظه. فلا أحد موضوعيًّا يقدر على أن يطالب بقراءة جديدة لِما يجهله قليلاً أو كثيرًا. إنّني منحاز، كثيرًا، إلى ما قلناه في السنوات التي مَنَّ الله علينا بها. ولا أعتقد أنّه يحتاج إلى مراجعة كثيرة. ويجب أن نجاوره، وندعو إلى قراءاته ودراسته، لنرجو أن تصيب أعضاءَنا "عدوى النهضة". فالنهضة أوّنت "فكر المسيح". وهذا، في الحقيقة، غاية كلّ تعليم وإرشاد. كلّ ما ذكرتُهُ، هنا، هو تراث، تراثنا. وهذا يجب أن يكون مصدر ثقافتنا الأوّل.
ب- يتكلّم من خبرة شخصيّة
المصدر الثاني أنّه يتكلّم من خبرة شخصيّة. وأقصد بالخبرة أن تعتنق ما تقوله أنت، ويكون لك لونُكَ الخاصّ في تقديمه. ورأس الخبرة أن يكون الله قد اختبرك، كما يقول الرسول: "كلامنا كلام مَن اختبرهم الله، لكي يأتمنهم على البشارة. لا لنرضي الناس، بل لنرضي الله الذي يختبر قلوبنا" (1تسالونيكي 2: 4). فالخبرة، صحيحةً، هي أن تقول أنت نفسُكَ حبَّكَ لله بكلماتك، أي بفمك بعد أن تكون كلماتك قد صعدت من قلبك الذي يعرفه الله، ويفحصه. وإذا اتّفقنا على أنّ مصدر إرشادنا الأوّل هو تراثنا، فهذا اتّفاق لا يكمل إن لم يصبح تراث كلٍّ منّا شخصيًّا. فالمرشد لا يردّد ما وصل إليه تردادًا باردًا، بل بقناعة شخصيّة. وهذا يدفعني إلى القول، سريعًا، إنّ مَن يعتمدون أقوال غيرهم فقط (طبعًا، لا أتكلّم على سلطان كلمة الله في امتداداتها)، لا يقدّمون شيئًا جديدًا بالكلّيّة. ولست بهذا أخفّف من قيمة ما استلمناه. لكنّي، فيما أراه نور سبيلنا، أبيّن أنّ الله تهمّه، أيضًا، قراءتُهُ التي كتبها على لوح قلوبنا. وهذا، إن قبلناه، يجعلنا نحسن استعمال كلّ مرجع نعتمده في سياق تقديم أيّ موضوع نطرحه في لقاءاتنا. فلا يجوز أن نكرّر، دائمًا، ما دوّنته المراجع حرفيًّا. لست أقول أن نغيّر مضمونه. لكن، مَن يسمعنا نعتمد التكرار حصرًا، فربّما يقول إنّني قادر على أن أصل إلى ما أسمعه وحدي. وهذا، بالطبع، يمنعنا من أن نقرأ نصوص المراجع التي نعتمدها على الإخوة في وجودهم، أي أن نحمل مرجعًا، ونتلو ما فيه حرفيًّا أمامهم. إن فعلنا، فقد تتهاوى شهادتنا، وقد نفقد رصانة موقعنا. إذًا، كيف نلتزم المراجع فيما تكون لنا قراءتنا الشخصيّة القائمة على الأصل المطبَّق، هذا هو هدف المصدر الثاني.
ج- يكلّم أشخاصًا محدّدين
لا تقلّ أهمّيّة هذه النقطة عمّا مرّ أعلاه. فكلّ ما نقوله يجب أن نقوله إلى أشخاص محدّدين. وهذا، الذي لا يحتاج إثباته إلى عناء كبير، يعني، أيضًا، أنّك يجب أن ترفعهم إلى مرتبة أن يسمعوك، أي أن تساعدهم على أن يبيّنوا اعتقادًا راسخًا أنّ كلمة الله تخصّ كلاًّ منهم شخصيًّا، ليتوبوا جميعًا إلى الله حقًّا. هذا أقوله، وحسبي أنّنا يجب أن نكون متّفقين على أنّ غاية كلّ ما نفعله هي توبة السامعين، أو توبتنا جميعًا. فالتوبة، إن تكشّف حقّها أمامنا، تساعدنا على أن نزداد فيها. لا أريد أن أتعبكم باستطراداتي. غير أنّ هذا يذكّرني بسرّ التوبة والاعتراف. ويعنيني، كثيرًا، ألاّ يفوت أيًّا منّا أنّ الاعتراف هو شأنُ كياننا كلّه، أي ليس شأن فم فحسب، أو موقع من دون آخر، أو، بكلام أدقّ، شأن حياتنا الكنيسة كلّها. فكلّ ما يقال ويعمل في الكنيسة هدفه أن نحسن التوبة. وهذا، بالضرورة، يجب أن يعني لنا أنّ الاعتراف، الذي هو إقرار علنيّ بالذنوب أمام الكهنة، يفترض استعدادًا دائمًا للتوبة. بمعنى أنّ اعترافك أمام أبيك الروحيّ يتطلّب، لزامًا، أن تستكمله بوعي يحضّك على أن ترتضي كلمة النصح من أيِّ جهةٍ أتتك. كيف نسمع كلمة الله من جميع الناس، كيف نعدّ قلوبنا، لنتوب إليه دائمًا؟، أمر لا غنى لنا عنه إن كنّا نعي أهمّيّة أنّنا "خطأة يتوبون". فكم سمعنا أشخاصًا، إذا كلّمتهم، يعتبرون أنّك تقصد غيرهم. وكم سمعنا أشخاصًا يزعجهم ما يسمعونه. وهذا مرض لا يشبه مرض. وما من أمر يشفينا منه كما أن نعتبر أنّ كلمة الله تخصّنا دائمًا.
سأخبركم قصّة تنفعنا هنا:
زار بعض الإخوة القدّيس أنطونيوس الكبير، وقالوا له: "قلْ لنا كلمة، كيف نخلص؟". فأجاب: "ألا تقرأون الكتاب؟ فإنّه يكفيكم". فقالوا: "إنّما نريد أن نسمع منك، يا أبانا". فقال: "يقول الكتاب: مَن ضربك على خدّك الأيمن، فحوّل له الآخر". فقالوا: "لا قدرةَ لنا على ذلك، يا أبانا". فقال: "إذا لم تستطيعوا أن تحوّلوا الخدّ الآخر، فتحمّلوا، على الأقلّ، الصفعة على خدٍّ واحد". قالوا: "ولا هذا نستطيعه". فقال: "إذا عجزتم عن هذا أيضًا، لا تقابلوا الصفعة بمثلها". قالوا: "ولا هذا أيضًا نقدر عليه". حينئذٍ، قال لتلميذه: هيّئ لهم حَساء، فإنّهم مرضى".
هذا، بإلحاح، يعني أنّ كلّ إرشاد، مهما سما، يكون باهتًا إن لم يعرف المرشد خصائص مَن معه (بيئتهم، عاداتهم، تقاليدهم، مفرداتهم، تصرّفاتهم، والخطايا التي تضربهم...). وهذه غير ممكنة من دون عيش مشترك (وهذا يجب أن نضعه نصب أعيننا، لا سيّما إذا كان عندنا مرشدون يتنقّلون من منطقة إلى أخرى). أذكر أنّ إحدى المرشدات دوّنت، في كتاب، وصيّة للكهنة الواعظين، دعتهم فيها إلى أن يدخلوا المحالّ التجاريّة؛ وأن يقصدوا الكنيسة سيرًا على الأقدام، ليصادفوا هذا أو ذاك من المؤمنين، ويكلمّوهم ويسمعوهم؛ وأن يعتنوا بزيارة بيوت الرعيّة، وكلّ هذا، وغيره، ليحسنوا اختيار المواضيع التي يطرحونها في عظاتهم، ويصيبوا الناس في قلوبهم. وهذه الوصيّة أساس لنا، لنعرف كيف نكوّن لغتنا الإرشاديّة. فمَن لا تعرفهم شخصيًّا، يصعب أن تخاطبهم هم. وتأكيدًا لهذا، قلنا في المؤتمر الحركيّ السابع: "مرشد الفرقة يتّخذ حياة الفرقة، ويدير اجتماعاتها كلّها، ويكون على اتّصال وثيق بأعضائها جميعهم" (راجع: أنطاكية تتجدّد، صفحة 426). إنّني، ككثيرين غيري، أعرف أنّ معظمنا يدّعون أنّ وقتهم ضيّق! ولكنّ التربية تفترض التزامًا. والالتزام هو، في جوهره، ملازمة. أنت تلتزم أشخاصًا، أي تلازمهم. وتلازمهم، لتعرفهم. وتعرفهم، لتحسن هديهم، ويحسنون إقامة علاقة بالله هي هدف كلّ شيء. ويعنيني، أخيرًا، أن أقول إنّني أعرف الجدل الذي قام، والذي قد يقوم غدًا، عن الحدود التي تفصل عمل المرشد عن الأب الروحيّ. نحن لم نقل، يومًا، إنّ مرشدينا آباء روحيّون. وهم يعرفون هذا، ويسلكون بموجبه. ولا أقول جديدًا إن أكّدت أنّ معظم آبائنا الروحيّين لا يفوتهم أنّ أوّل ما يقود المؤمنين، اليوم، إلى الاعتراف هو هذا الوعي المتمثّل بنشر كلمة الله بقربى لا يكمل إرشاد من دونها.
2 ً- غناه الثقافيّ
في هذا الموضوع، لا بدّ من التأكيد أنّ المرشد شخص يلتزم القراءة اليوميّة (أي كلّ ما يخدم توزيع إنجيل الربّ). أوحينا بشيء من هذا عندما أكّدنا واجب معرفة تراثنا. وَقَبْلَ أن أركّز على ضرورة القراءة، أريد أن أؤكّد، هنا، أنّ الغنى في المعرفة، أي الثقافة الكبيرة، تعطي المرشد أن يكلّم أعضاءه بأشكال متنوّعة، وأن يحسن الإصغاء إليهم. فمن باب ثابت أنّ الاجتماع، الذي يضمّنا إلى إخوة محدّدين، ليس هو صفًّا مدرسيًّا، أي أنت تتكلّم فيه وحدك، والآخرون يستمعون إليك. فأنت تتكوّن، وتغتني أيضًا، من مداخلات تسمعها، أو أسئلة تُطرح عليك. فإلى الإقرار بحقّ نعمة الله أبدًا، الغنى الثقافيّ منشأه أمران: 1) التحصيل الشخصيّ (بوجهه كافّة)، 2) معاشرة الإخوة والاستماع إليهم. وقد يأتيك سؤال صعب، يضطرّك إلى جواب عنه سريع. وقد يكون السائل شخصًا عوّدتَهُ أن يحمل إليه كلامك أمورًا جديدةً دائمًا. في الواقع، الاجترار ضدّ الغنى. لست بقائل إنّ التكرار لا ينفع. لكن، مَن أغناه ربّه، يمكنه أن يقول ما يعلمه بطرائق عديدة. وهذه، التي هي دلالة على الغنى الموجود، دعوة دائمة، لنرجو أن يقدّر الإخوة المعرفة، ويجتهدوا في سبيل تحصيلها.
من دون انتفاخ، كلّنا نعرف أنّ اجتماعاتنا لا تخلو من تقديم تعليم الله في أجلى بيان. وهذا، على أهمّيّته، لا يمكنه أن يختصر الشخصيّة الإيمانيّة وحده. فالشخص دعوته أن يلتزم الاجتماعات التعليميّة، وأن يستتبعها في قراءة شخصيّة تغنيه، وتغني جماعته في آن. لا تكمل شخصيّة المؤمن إن أهمل هذه الدعوة التي هي، في شقّيها، دعوة واحدة. فالاجتماع، الذي ضرورته أنّه يعلّمنا، ممّا يعلّمنا، الفكر الكنسيّ القويم وما يتطلّبه من حياة شاهدة، يستدعي هو ذاته أن ننمّي أنفسنا في قراءة موصولة. وعليه، لا يمكن أحدًا أن يكتفي بما يتلقّاه في لقاءات كنيسته. وعليه أيضًا، لا يمكن أحدًا أن يستغني عن إخوته في الجماعة بقراءة الكتب. فكلّ فصل بين هذين المصدرين الملزمين خطره صعب وفتّاك. من حيث إنّ مَن يقرأ، بعيدًا عن إخوته (أي من دون أن يحيا من ملازمتهم وزمالتهم)، قد يفهم ما يقرأه على هواه. ومَن يلتزم لقاء الإخوة، من دون أن يبني نفسه بالقراءة، فقد يبقى محدود الآفاق. الشخصيّة الكاملة هي التي تقوم على هذا الالتزام الواحد في بعديه المبيّنين.
كيف نتلمّس أهمّيّة القراءة في تكوين شخصيّة المرشد؟
في مسعى الجواب عن هذا السؤال، سآخذ آيتين من الإنجيل، وأعلّق. الأولى، قول الربّ إلى أحد معلّمي الشريعة: "ماذا كتب في الشريعة؟ كيف تقرأ؟" (لوقا 10: 26). والثانية، وصيّة بولس الرسول إلى تلميذه: "انصرف إلى القراءة والوعظ والتعليم" (1تيموثاوس 4: 13).
إذا قرأنا السياق الذي وردت فيه الآية الأولى، نعرف أنّ أحد معلّمي الشريعة أتى إلى يسوع، وسأله عن السبيل الذي يجعله يرث الحياة الأبديّة. فردّه السيّد إلى الشريعة التي يعرفها، وسأله كيف يقرأ. فجمع له الرجل الوصايا في اثنتين تتعلّقان بمحبّة الله والقريب. فدعاه الربّ إلى أن يلتزم ما قاله، فيحيا. غير أنّ معلّم الشريعة أراد أن يزكّي نفسه، فسأل يسوع: "ومَن قريبي؟". وهذا سؤال خلفيّته أنّ اليهود يكرهون الغرباء، ويرفضون أن يخالطوهم. فروى له ربّنا مثل "السامريّ الصالح" (وهو غريب عن بني جنسه) الذي ساعد إنسانًا مجروحًا ملقى على الطريق لا تعطفه عليه عاطفة، فكان أفضل من اثنين من بين جنسه: كاهن ولاويّ. ودعاه، في الأخير، إلى أن يحذو حذوه، ليحيا (30- 37). لن أقدّم تفسيرًا لهذا النصّ المدهش. فاختياري إيّاه سببه أنّ الربّ وضع فيه خطًّا للسلوك الذي يحيي المؤمن. وهذا الخطّ جوهره أن يلتزم كلّ مؤمن كلمة الله المثبتة في كتابه، ويحيا بموجبها في غير وقت، ومع أيٍّ كان. وما يجب أن نلاحظه، في هذا الحوار، أنّ القراءة (قراءة الكتب المقدّسة هنا)، ولا بأس إن كرّرنا: القراءة اليوميّة، أساس السلوك. فالمؤمن يأتي من الكلمة إلى الحياة. هي، الكلمة، حياة الإنسان بهذا المعنى الواحد.
أمّا الآية الثانية ("انصرف إلى القراءة والوعظ والتعليم")، فتدلّنا على أنّ القراءة أساس كلّ ما يقوله المؤمن في سياق الحياة الكنسيّة وشهادتها في العالم. فالمؤمن لا يتكلّم إلاّ على قاعدة التزامه قراءة كلمة الله ومعناها الظاهر في برّ التاريخ. وهذا ثابت في تتابع انسياب المطالب التي يبدأها الرسول بالقراءة، ويستكملها بالوعظ ثمّ بالتعليم. فالقراءة، في هذه القائمة المحكمة، تأتي أوّلاً. وعليه، مثلاً، لا يقدر واعظ على أن يعظ، أو معلّم أن يعلّم، أو مرشد أن يرشد، إن لم يبنِ نفسه بقراءة موصولة. لا يقدر أحد، في سياق تنفيذه تكليفه، (كاهنًا كان أو علمانيًّا)، على أن يتّكل على علمه، أو ذكائه، أو يطلب، فارغًا، أن يعينه روح الله في ما سيقوله. فإن نجح مرّةً، فقد يفشل مرّاتٍ لا عدّ لها. وتوزيع الكلمة لا يحتمل فشلاً، وإن واحدًا. المنصرف إلى القراءة، أي الذي يبنيه ربّه بعلمه، هو المهيّأ، واقعيًّا، لينصرف إلى الوعظ والتعليم. ولا يعوزنا التأكيد أنّ الرسول، بقوله، أوحى بأنّ المكلَّف إلهيًّا توزيعَ الكلمة لا يقدر على أن يستخفّ بعقول الناس. فالناس ليسوا أغبياء، ولا تجوز معاملتهم كما لو أنّهم كذلك! ومَن استخفّ بأحد، لا يمكن أن يدّعي أنّ ارتفاعَ غيرِهِ قناعةٌ عنده. وشأن توزيع الكلمة أن يرفع الآخرين إلى الله. كلّ ما نقوله ونفعله إنّما هذا هو هدفه الوحيد.
شخص يصلّي
في الأخير، ثمّة صفة لا تكمل صفة من دونها، وهي أنّ المرشد "شخص يصلّي". ولا أقصد بشخص يصلّي أنّه يلتزم، فقط، الصلوات الكنسيّة، التي تبديه فقيرًا إلى الله وتغنيه كثيرًا، فهذا أمر واجب دائمًا، بل إنّه، أيضًا، يصلّي للإخوة الذين يعتني بإرشادهم. وإنّه يفعل لكونه يعتقد أنّ الله هو الذي يثبّت حقّه في قلوب مَن يلتزمون كلمته. الناس، في الأخير، لا يثبتون لكوننا نكلّمهم ونرافقهم على دروب حياتهم، على أهمّيّة الكلام والرفقة، بل لكون الله يفعل. وفي هذا المعنى، شهد بولس لأحد مساعديه، بقوله: "يسلّم عليكم أبَفْراس ابن بلدكم، وهو عبد للمسيح يسوع لا ينفكّ يجاهد عنكم في صلواته، لتثبتوا كاملين تامّين في العمل بكلّ مشيئة الله" (كولوسي 4: 12). فالصلاة من أجل الإخوة هي التعبير الفصيح عن أنّ المرشد إنّما يبذل قلبه، ليعظم الآخرون في الحقّ. الإرشاد، الذي وصفته في مطلع هذه السطور بأنّه شخص، أقول فيه الآن (ملتزمًا المعنى عينه): إنّه قلب. وفي هذا، قال بولس أيضًا: "وما أطلب في الصلاة هو أن تزداد محبّتكم معرفة وكلّ بصيرة زيادةً مضاعفة، لتميّزوا الأفضل، فتصبحوا سالمين لا لوم عليكم في يوم المسيح، ممتلئين من ثمر البرّ الذي هو من فضل يسوع المسيح تمجيدًا وتسبيحًا (فيلبّي 1: 9- 11). وهذا يبيّن أنّ الرسول يعي، وعيًا كاملاً، أنّ صلاته من أجل الإخوة، الذين يعتني بتعليمهم وإرشادهم وقيادتهم إلى الحقّ، هي التي تزيدهم كلّ خير، ليرتبطوا بالله، ويثمروا، هم أيضًا، كلّ البرّ في تمجيده وتسبيحه.
خاتمة
كلّ العمل الإرشاديّ، الذي ألقاه الله على أشخاص تغريه صفات زرعها فيهم، هدفه أن نسعى، ما حيينا، إلى أن يتحقّق قول الرسول في مَن يريدهم الله مخلصين للمحبّة الأولى: "إنّكم رسالة من المسيح، أنشئت عن يدينا، ولم تكتب بالحبر، بل بروح الله الحيّ" (2كورنثوس 3: 3). هذا من نعم الروح على تيّارنا النهضويّ، لتغدو كلمة الله بشرًا ينشرون طيبه في العالم.