استكمالاً لما أنف، أريد أن أكلّمك، في هذه السطور، على الصوم الكنسيّ الذي هو، في جوهره، ممارسة جماعيّة أيضًا.
أمور كثيرة تضطرّني إلى أن أطوف وإيّاك ببعض أفكار تضجّ حولنا، من غير جهة، لتحذر الانزلاق في فكر الأرض. ومن هذه الأفكار أنّ أناسًا كثيرين، يحيون بين ظهرانينا، باتوا يقيمون صومهم، فرديًّا، وفق ما يرون هم أنّه يناسبهم. فمعظمهم يتصوّرون أنّهم، أفرادًا مبعثرين، يرضون الله. وهكذا نجد منهم مَنْ يصوم عمّا يهواه تحديدًا، وَمَنْ يصوم في أوقات محدّدة، أو أيّام محدّدة، ومن ثمّ يأكل ما طاب له، وَمَنْ لا يعنيه الصوم إطلاقًا. وهناك ممارسات أخرى تلتقي، أو تتقاطع، مع ما ذكرتُهُ لك.
إنّك، والشكر لله، ربيتَ على أن تحفظ الصوم وفق ما تقتضيه كنيستنا التي أَمَرَتْنا بأن ننقطع عن الزفرَيْن (اللحم ومنتوجه) انقطاعًا كاملاً في الأصوام الكبرى (وأن نترك وجبة الصباح في الصوم الكبير المقدّس)، ويومَي الأربعاء والجمعة من كلّ أسبوع لا يأتي بعد عيد كبير، وفي بعض الأعياد الأخرى (كعيدَيْ رفع الصليب المحيي، وقطع رأس يوحنّا المعمدان). وفيما أكلّمك على ما تفعله، وأرجو أن تبقى عليه ما حييتَ، سأحاول أن أبيّن لك بعض معانيه، لتقوى في ممارسته، وتقدر على المساهمة في نشر الحقّ.
أتركُ، هنا، مَنْ لا يرون الحقّ في تراثنا، ولو أنّني أرى أنّ ثمّة مسؤوليّةً تقع عليهم، كما علينا، في نشر أفكار لا علاقة لنا بها، أفكار نشروها هم بإعلائهم نقائص التاريخ أو ما تحرّك فيهم من عيب، وَقَبِلَها بعضُنا من دون أن يحتكموا إلى تعليمنا الحيّ.
إذًا، أتركهم فيما أتبع بعض آثارهم.
أنت لا بدّ من أنّك تعرف أنّ أوّل دافع إلى الصوم الكنسيّ هو المحبّة، أي محبّة الإخوة المفتقرين في الأرض. لقد كان المسيحيّون، في زمن الإمبراطوريّة الرومانيّة، ينقطعون عن الطعام أيّامًا عدّةً، ليُطعموا الذين يتلهّبون جوعًا. وهذا كانوا يفعلونه من دون أن يميّزوا بين وجه وآخر. كانوا يرون، في كلّ محتاج، أيًّا يكن دينه أو جنسه أو لونه، وجه يسوع الواحد. والثابت أنّ ما جعلهم ينغمسون في فعل هذا الخير هو إيمانهم بأنّ الله أحيانا من موتنا، أحيانا جميعًا من دون تمييز. فجوهر الصوم أنّه عمل محبّة، أي عمل إحياء. فأن نحبّ، لهو أن نُحيي. وما عليك أن تلاحظه أنّ المسيحيّين، فيما كانوا يسعون إلى عمل الإحياء، كانوا يختارون أن يجوعوا هم بدورهم أيضًا. طبعًا، هناك، في دنيانا، مَنْ يعتقد أنّه يمكنه أن يشارك في إحياء الآخرين من دون أن يختبر الجوع، أي أن يلتزم الصوم الكنسيّ. هذا، على احترامنا أصحابه، نراه لا يحاكي ما تطلبه كنيستنا. ونحن شأننا أن نلتزم الممارسات الكنسيّة وفق المعاني التي تتضمّنها، أي وفق ما أراده منها الذين سلَّمونا إيّاها.
لِمَ؟
قَبْلَ أن أعطيك جوابًا مباشرًا عن هذا السؤال، أريدك أن تبتعد، دائمًا وأبدًا، عن كلّ تمييز مغرض تراه يوهم بعضًا بأنّ ما يريده الربّ يختلف عمّا أنشأتْهُ كنيستُهُ جيلاً فجيلاً. وكيف تبتعد عن هذا الوهْم الحقيقيّ؟ تبتعد بإيمانك الثابت بأنّ الكنيسة، جسد المسيح، إنّما يقودها روح الحقّ، من دون أيّ ركود، إلى ما فيه خيرُها. ليست الكنيسةُ بشرًا تختلف شؤونهم عن شأن الله. الكنيسة جماعة الله الذي سلَّمها، بالروح القدس القائم فيها، كلّ ما يرضيه في هذا الوجود.
أمّا الجواب عن "لِمَ"، فعاد سهلاً. فنحن نلتزم الكنيسة، أو ما تريده الكنيسة، لكونها "محلّ سكنى الله".
أمّا الصوم، فنتعلّمه بالممارسة.
سأخبرك قصّةً، هزّتني، توضح ما أريد قوله في هذا السياق:
كان لي صديق لا تقنعه بعض أمورنا بسهولة. لم يكن ذلك الرجل جافًّا روحيًّا، بل، على العكس من ذلك، كان الله يعنيه كثيرًا، ويلتزم كلمة الربّ وصلاة الجماعة التزام العاشق الولهان. لكنّه كان يأبى أن يمارس الصوم كما تقتضي الكنيسة أن نمارسه. هذا تَعَلّمَهُ من الخارج. وبقي عليه بعد أن عاد. حدّثتُهُ مرارًا عن الأمر. شجّعتُهُ على أن يحاول. وكان، في كلّ مرّة، يردّني بأدبٍ انطبع عليه. وكانت له حجج تقنعه. مرّةً، جاءني إلى بيتي في أوان العشاء. وكان زمن صوم. فطلبتُ من ذويَّ أن يعدّوا لنا المائدة، وأن يزيدوا عليها ما حسبتُ أنّ ضيفنا قد يرغب فيه، أي طعامًا لا نأكله في الصوم (أن يأتوا ببيض أو جبن، أو ما شابه، عدتُ لا أذكر). سمعني، ورفض عرضي علنًا. فاجأني رفضه. وظننتُ أنّه رفض خَجَلاً. سألتُهُ أن يبقى حرًّا. وأدهشني بردّه: "أريد أن أخبرك. فأنا أحاول أن أصوم". عبّرتُ عن فرحي بما سمعتُهُ. ثمّ سألتُه: "لكن، ما الجديد، حتّى أخذتَ تهتمّ بالصوم فجأةً؟". قال: "الفقراء". وعلى كون جوابه قد أعجبني، لم أفهم قصده. فطلبتُ منه توضيحًا. قال: "قرّرتُ أن أشارك الجائعين في جوعهم"! ثمّ أردف ببلاغةٍ كانت فيه: "رأيتُ، منذ مدّة، شخصًا يفتّش، في صندوقٍ للقُمّة، عمّا يسدّ به رمقه. قهرني المشهد. ثمّ راجعتُ نفسي. فأنا لا ينقصني طعام وشراب. لكن، ليست لي خبرة الجوع. وأردتُ، هذه السنة، أن أتنازل. إن كان إيماني بأنّ الربّ قد لبس جسدنا (ما خلا الخطيئة)، أي تنازل إلينا، فماذا ينفعني إن لم أسعَ إلى أن أشبهه؟"!
يا لَلبلاغة عندما تقتحم أحبّاءها!
هذه القصّة، التي جرت كما رويتُها حرفيًّا (ينقصها أنّني عرفتُ، في ما بعد، أنّ زائري غيّر المشهد بدعوته الجائع إلى العشاء!)، تحاكي ما قلتُهُ لك عن خبرة الجوع. لكنّ القصّة لم تنتهِ هنا. فصديقي اصطاده ربّنا في تشبّهه بتنازله. لقد علّمته خبرتُهُ أن يكتشف قيمة ما كان يمتنع عن ممارسته. وكان له ما اكتشفه نهجَ حياةٍ جديدًا!
إلى هذا، يحلو لي أن أخبرك أنّ ما يدفعنا إلى التزام الصوم هو طبيعة كنيستنا النسكيّة. أنت، يا بنيّ، تعلم أنّ النسك ليس شأنَ بعضٍ في الجماعة الكنسيّة، الرهبان مثلاً. فأعضاء الكنيسة أجمعون دعوتهم أن يروا أنّ "العالم يزول هو وشهواته". وهذه الرؤية، التي تحكم جوهر النسك عندنا، يستحيل أن نختبرها إن لم نسعَ إلى أن نعبد الله في كياننا كلّه، أي إن لم نُشرك جسدنا في العبادة. والصوم إطار من أطر هذا الاختبار، أو هو الإطار الأنجع. وأقول لك كلّ شيء إن ذكرتُ أنّ شأن المؤمن أن يشبه كنيسته في كلّ شيء. الذين يصومون، كما يحلو لهم، مشكلتهم أنّهم، ربّما عن جهل، ينفصلون عن كنيستهم. والكنيسة، شعب الله، هي التي سلَّمها ربّها، "دفعةً واحدةً"، كلّ ما يرضيه. ونحن، شعبًا، لا يليق بنا أن نقبل من تعليم الكنيسة ما يرضينا، ونرفض ما لا نرغب فيه. ليس من الالتزام الصحيح أن يسلك المرء على هواه، فرديًّا. ثمّة ما اختبرته الكنيسة أنّه مآل جِدّة فقداسة. ونحن، ملتزمين، إنّما علينا أن نتجنّب أن نبدأ من أنفسنا. فمن الغباوة أن يرمي المؤمنُ خبرةً عمرُها من عمر الكون.
هل تعلم لِمَ أقول لك "عمرُها من عمر الكون"؟
أقولها، لأنّ تراثنا يؤكّد أنّ الصوم عرفه الإنسان الأوّل في الفردوس. فآدم كان أليف الكون. وكانت ألفته تدفعه إلى أن يأكل من نتاج الأرض فحسب. لم يذبح، ليأكل. وأكلُ اللحم لم نعرفه قَبْلَ خروج جَدَّيْنا من الفردوس. وعرفناه، تحديدًا، على زمن نوح. من هذه الوجهة، الصوم عودة إلى الفردوس. أو ردّد قول الأكابر: إنّه استباق للملكوت الذي "ليس هو طعامًا وشرابًا".
ما أريد أن تعرفه، أخيرًا، أنّ الربّ، في عظة الجبل، طلب من تلاميذه جميعًا أن يتطيّبوا فيما يصومون. ظاهر هذا الطلب يعني أنّ الربّ كان يريد أن يميّز جماعته عَمَّنْ يريدون أن يظهروا للناس أنّهم يصومون، أي المرائين الذين لا يخصّون جيلاً من دون آخر. لكنّ عمقه أنّه يريد أن يعلّمنا أن نفرح بكلّ ما يرضيه فحسب. وهذا فرح يجب أن يحرّكه فينا وعيُنا الدائم أنّ الله نفسه "هو الذي يعمل فينا الإرادة والعمل في سبيل رضاه".
إن أردتَ، يا بنيّ، أن تسعى إلى رضا الله دائمًا، فابقَ على صومك. واحمل، في حلّك وترحالك، هذه المعاني الموروثة. فلا بدّ من أن تجد مناسبةً تُلقي عنك هذا الإرث الحلو على مسامع مَنْ يعنيهم غنى قلوبهم.