24مايو

الخدمة الصحيحة

            من روائع تعاليم الربّ، مَثلٌ اختصّ الرسول لوقا بإيراده في إنجيله. نقرأ: "مَن منكم له خادم يحرث أو يرعى، إذا رجع من الحقل، يقول له: تعال فاجلس للطعام! ألا يقول له: أعدد لي العشاء، واشدد وسطك واخدمني حتّى آكل وأشرب، ثمّ تأكل أنت بعد ذلك وتشرب. أتراه يشكر للخادم أنّه فعل ما أمر به؟ وهكذا أنتم، إذا فعلتم جميع ما أُمرتم به، فقولوا: نحن خدم لا خير فينا (أو: "إنّنا عبيد بطّالون")، وما كان يجب علينا أن نفعله فعلناه" (17: 7- 10).

            لا نجد، بادئ بدء، صعوبة في التأكيد أنّ الربّ، في هذا المثل، لم يرد أن يبحث في أوضاع العبيد المعروفة في العالم القديم ومشاكلهم والمظالم التي كانوا يعانونها، أو أن يؤيّد الخلل الاجتماعيّ السائد في زمنه (حاشا!). فالمَثل لا يمكن اعتباره بحثًا قانونيًّا في العبوديّة أو الحرّيّة. لكنّه، في شكله ومضمونه، تعليم حيويّ يتعلّق بمعاني الخدمة المسيحيّة، أو بقوام علاقة الخادم المسيحيّ بالله سيّده، وأعني خدمته الطوعيّة الدائمة له التي هي "السمة الرئيسة للتلمذة"، كما يؤكّد القدّيس غريغوريوس النيصّيّ. هذا يدلّ عليه أنّ خادم المثل، بعد إتمامه عمله في الحقل أو في المرعى، طلب منه سيّده أن يتابع عمله بأن "يعدّ العشاء له، ويشدد وسطه (أي يرفع ذيل ردائه إلى الزنّار، ليستعدّ للعمل من جديد)، ويخدمه حتّى يأكل ويشرب". ومَن تسنَّ له أن يفقه أصول العمل في الحقل أو المرعى، لا يخفَ عنه ما يفترضه هذا العمل أو ذاك من جهد وتعب. وما من شكّ في أنّ سيّد المَثل يعرف ذلك. فهو، مع علمه بتعب خادمه الذي عمل طوال النهار، طلب منه أن يخدمه شخصيًّا أيضًا. وهذا يبيّن، من جهة، أنّ السيّد من حقوقه أنّ يخدمه خادمه، طوعًا، بطرائق عديدة ومتنوّعة، أي أن يخدمه دائمًا وكلّيًّا. ويبيّن، من جهة ثانية، أنّ الخادم من واجبه أن تبقى عيناه مرفوعتين إلى يد سيّده (مزمور 123: 2)، وأن يطيعه، في كلّ ما يطلبه منه، رغم تعبه، وأن يفعل ذلك من دون تذمّر أو تلكّؤ. ولا يشعرنا الربّ بأنّ سيّد هذا المَثل رجل قاس، أو متعسّف، أو استغلاليّ. فالربّ، كما أشرنا، لا يحصر ذاته بعلاقة العبيد بأسيادهم. وهدفه المحدّد أن يتعلّم تلاميذه الأوّلون، وجميع الذين سيمنّ الله عليهم بالخدمة في غير جيل، أصول الخدمة المجّانيّة الراضية. وهذا يذكّرنا بالكلام الرائع الذي سطّره القدّيس أغناطيوس الأنطاكيّ في رسالته إلى بوليكاربس، وأعني قوله: "المسيحيّ لا يملك نفسه وليس بسيّدها، إنّ وقته لله ولا يعمل إلاّ من أجله" (7: 3).

            بعد هذا، يسهل التأكيد أنّ من مقتضيات الخدمة أن يخدم الخادمُ سيّدَهُ طبيعيًّا. إذ إنّ كلّ خدمة صحيحة تقوم على معرفة أنّ الخادم إنّما خادم هو. بيد أنّنا، مسيحيًّا، لا يليق بنا أن نتكلّم على الخدمة، أيّ خدمة، من دون ذكر القاعدة الرئيسة لها، وأعني المحبّة (1كورنثوس 12: 31، و13: 1- 13). وهذه القاعدة لا يخفيها سياق المثل. ويمكننا أن نستشفّها ، إذا قرأناه برويّة. فباعتقادنا أنّ ما قاله سيّد المَثل لخادمه العائد من الحقل أو المرعى، بعد أمره إيّاه بخدمته، أي: "ثمّ تأكل أنت بعد ذلك وتشرب"، يدلّ على ذلك، أي على وعي السيّد حاجات خادمه، وتاليًا على اهتمامه به ومحبّته إيّاه. وهذا لا يغيّره أنّ السيّد قد تجاوز تعب خادمه، وطلب منه أن يخدمه أوّلاً[1]. معنى ذلك أنّ الطاعة كاملة، أو أنّ الخدمة الحرّة الطبيعيّة والدائمة لا تكون حقيقيّة، أو كاملة، ما لم ترتكز على المحبّة. ففي إطار المحبّة التي بيّنها الربّ كلّيًّا بإتمامه التدبير الخلاصيّ، تحلو الطاعة، وتصحّ الخدمة. والمحبّة المتبادلة هي، وحدها، إطار الحرّيّة الكامل. إذ ما من أحد يقدر على أن يخدم الله، في أيّ مجال من مجالات الخدمة، ويصحّ عمله، ويكمل، ما لم تكن خدمته تجاوبًا متواضعًا وحرًّا مع محبّة الله المثبت فيضها دائمًا. ومَن يحبّ الله محبّة كلّيّة، يجد لذّة في خدمته (وهذا ما يحلو لنا أن نراه ينطبق على خادم المثل)، أو هذا ما يجب. هذا لا يعني أنّ الخدمة، في المنظور المسيحيّ، هي عمل بلا تعب. فلقد أشرنا، أعلاه، إلى ما يمكن أن يتحمّله خادم المَثل من المشاقّ في عمله الدائم. ونرى أنّه، تاليًا، إشارة إلى تعب الخدّام المسيحيّين[2]. غير أنّ المسيحيّ الحقّ لا يقيس خدمته على ما يفترضه عمله من تعب، بل على علاقته بسيّده والمحبّة الراضية التي تجمع بينهما.

            إلى هذا، ما يوحي به المَثل أيضًا، هو أنّ الخادم الفاهم لا يليق به أن يتباهى، أو ينتفخ، إذا قام بخدمته. هذا ما يكشفه الربّ، في خلاصة المثل، بقوله لتلاميذه (ولنا أيضًا): "وهكذا أنتم، إذا فعلتم جميع ما أُمرتم به، فقولوا: نحن خدم لا خير فينا، وما كان يجب علينا أن نفعله فعلناه". وهذا، إلى جانب تأكيدنا المثبت أنّ قوام كلّ خدمة هو أن يبقى الخادم رهن أمر سيّده، يدلّنا على أنّ كلّ خدمة تتطلّب أن يعرف الخادم، بوعي تامّ، أنّ نجاح خدمته لا يرتبط بقدرته الذاتيّة، بل بقدرة الربّ وحده. فالله هو الذي يتمّم العمل معنا أو فينا (أنظر مثلاً: أعمال 21: 19؛ 1كورنثوس 12: 6؛ غلاطية 2: 8؛ أفسس 3: 20؛ فيلبّي 2: 13). والخادم إنّما يخدم بفضل جود الله وعونه. ولذلك، الخادم الواعي لا يفوته بطلُهُ، أي هو مَن لا يمتنع عن الاعتراف الدائم، في قرارة نفسه وعلنًا، بأنّه لا يفيد في شيء. وهو، أيضًا، مَن لا ينتظر شكرانًا، أو عرفان جميل، على ما طُلب منه أن يعمله. وهذا لا يعني إنكارًا كلّيًّا للشكر، بل أنّ مَن يخدم الله لا يطلبه لنفسه بتاتًا، أو لا ينتظره أصلاً. وإذا شُكِر - وهذا وارد - فمن واجبه أن يرفض كلّ مديح (أنظر: رسالة القدّيس أغناطيوس إلى أهل تراليان 4: 1)، وأن يرفع سامعيه، ويدلّهم، بثقة واضحة، على مَن يستحقّ المدح والشكر وحده، أي على الله سيّده الذي سمح له بأن يخدم، وجعل خدمته، بنعمه الوفرة، ممكنة.

            لا يمكننا أن نقول، مع بعض المفسّرين، إنّ صفات سيّد هذا المَثل ومتطلّباته تختلفان، كلّيًّا أو جزئيًّا، عن صفات الربّ يسوع ومتطلّباته. فالمسافة، التي تبعد الخادم المؤمن عن سيّده (كما يظهرها هذا المثل)، ضرورة دائمة من ضرورات استقامة العلاقة بين الإنسان والله. وذلك على الرغم من أنّ الله قد كشف نفسَهُ وقربَهُ في وجه ابنه الوحيد، وحرّرنا كلّيًّا من العبوديّة، وفق قول الربّ المبارك: "لا أدعوكم عبيدًا بعد اليوم، لأنّ العبد لا يعلم ما يعمل سيّده. فقد دعوتكم أحبّائي لأنّي أطلعتكم على كلّ ما سمعته من أبي" (يوحنّا 15: 15). فإن تنازل الربّ وخدمنا هو بطريقة مذهلة لا نستحقّها (لوقا 12: 37)[3]، وإن طلب هو منّا الخدمة الدائمة (كما في المثل)، لا شيء يجعلنا، في كلا الحالين، على مستوى واحد معه. الربّ يبقى هو الربّ، ونحن طوع أمره. وهو، بنعمته التي يغدقها علينا مجّانًا، يعطينا أن نخدمه، وأن نشبهه في حبّه وبذله، ويساعدنا على ذلك. هذا ما تؤكّده، خير تأكيد، المفارقة الرائعة التي توحي بها خلاصة هذا المثل، وأعني أنّ الربّ الذي لا يقيّد نفسه بإنسان مهما علا شأنه وحَسُن حاله، والذي يطلب مِن كلّ مَن يخدمه، بجدّيّة وحقّ، أن يعترف بأنّه "خادم لا خير فيه"، أي لا يفيد في شيء، حلا له أن يجعلنا رسله وخدّامه في العالم.

            هذا المثل، وما يوحي به من معانٍ وعبر، من الواجب أن يبقى نصب أعين جميع الذين كلّفهم الله أن يخدموه، حتّى تصحّ الخدمة المطلوبة، ويمجّد الله وحده.


[1] وهذا الطلب هو، في الواقع، من أعلى الأمور التي من الواجب أن تأخذ ألباب خدّام الله الحقيقيّين، أي خدمة الله قبل خدمة الذات.

[2] أنظر مثلاً: رومية 16: 6 و12؛ 1كورنثوس 3: 18، 4: 12، 15: 10 و58، 16: 16؛ 2كورنثوس 11: 27؛ غلاطية 4: 11؛ فيلبّي 2: 16؛ كولوسّي 1: 29؛ 1تسالونيكي 1: 3، 2: 9، 5: 12؛ 1تيموثاوس 4: 10، 5: 17؛ عبرانيّين 6: 10.

[3] أنظر أيضًا: الآيات التالية التي يسمّي فيها الربّ نفسه "الخادم": متّى 20: 28؛ مرقس 10: 45؛ لوقا 22: 27.

شارك!

جميع الحقوق محفوظة، 2023
Skip to content