الكلام، في المسيحيّة، على الخطايا هدفه التخلّص من كلّ ما يعيق اتّحادنا بالله. فالخطيئة ليست أن نرتكب هذا السوء أو ذاك فحسب، بل أن ننفصل عن الله، أو أن نحيا كما لو أنّه غير موجود.
من الخطايا الشنيعة، التي تدعونا المسيحيّة إلى الهروب منها، خطيئة الحقد. وأن تحقد على أحد، هو، كما تبيّن كتبُ اللغة، أن "تمسك عداوتك في قلبك، وتتربّص فرصة الإيقاع به". وهذا، كما هو ظاهر، يحمل شرّين لا فاصل بينهما. الأوّل أن نخفي غضبًا ثابتًا في قلوبنا. فـ"من الغضب يولد الحقد" (الراعي لهرماس، الوصيّة الخامسة 2: 4). والثاني أن نظهره متى رأينا الأوان مناسبًا. وفي الواقع، كلّ خطيئة مقبولة تتحرّك في قلب الإنسان أوّلاً، أو في داخله، ومن ثمّ يظهرها. واللافت أنّ ما اقتبسناه من تعريف للحقد لا يحدّد الوقت الذي يبقى فيه الإنسان ممسكًا عداوته في قلبه. نقرأ فقط: "يتربّص فرصة". وهذه قد تأتي سريعًا. وقد تأتي بعد حين. وربّما لا تأتي البتّة. ولا يجوز أن نعتقد أنّ الإنسان، إن مات من دون أن يظهر عداوته، يعفيه موته من شرّ ثانٍ. فالخطيئة كاملة متى سكنت القلب.
ليس محرّك الحقد، بالضرورة، شرًّا نراه في الآخرين. فقد يحقد واحدٌ على إنسان بياضُهُ ناصع. قد يحقد، مثلاً، على شخص ناجح، أو محبوب، أو يراه ينافسه في أمر من أمور دنياه. وقد يحقد على صديق أو قريب أو أخ (أنظر، مثلاً، حقد عيسو على أخيه يعقوب في تكوين 27: 41). وقد يحقد على الدنيا كلّها من دون أيّ سبب. يحقد هكذا بسبب تربية فارغة، أو عقدة نقص، أو جوّ مريض يسمح له بأن يسيطر عليه. وَمَنْ يحقد، لأيّ سبب من الأسباب، إنسان يأتي من نفسه، ولا يأتي من الله المنزَّه عن الحقد (أنظر مثلاً: مزمور 103: 9). وَمَنْ يأتِ من نفسه، لا يمكنه أن يحقّق إنسانيّته، أي أن يتمثّل بالله. وكلّ هدف حياتنا أن نتمثّل بالله. مَنْ يأتِ من نفسه، يتتلمذ على شرور الأرض. ولا ينفع الحقود أن يغطّي نفسه بظواهر الالتزام وظواهر المعرفة، أي معرفة الله وما قاله. فقد كُتب أنّ "الحقد معلّمٌ يشرح الكتاب باستياق أقوال الروح إلى وجهة نظره" (السلّم إلى الله 9: 10). فالالتزام برّ. وعلى البرّ يؤسّس كلّ ما يريدنا الربّ أن نعرفه، لنثبت فيه.
أمام أيّ إلحاح خطيئة، يَستحضر المؤمن الله الحاضر دومًا، ليرفعنا إليه. فأنت لا تَزين أخلاقك على ذاتك ومجتمعك، بل على الله وحده. وإن عرفتَ أنّ شرًّا فيك يدغدغك، تستردّ قلبك بالرجوع إلى مَنْ هو، وحده، مخلّص الناس أجمعين. وهذا هو معنى التوبة في المسيحيّة. فالتوبة رجوع إلى الله بهذا المعنى الذي يفيد رجوعًا عمّا ليس منه، أو عمّا يغضبه، أو، بكلام أعمق، باستعادة نقاء الحياة من عينيه وأمام عينيه. ولا يفوت العارفين أنّ أعلى معاني التوبة أن نجتهد، لنوسّع قلوبنا للربّ الحاضر أبدًا. لقد أكّد الربّ أنّ الشرور مصدرها القلب البشريّ (متّى 15: 18). وإن طلب قلوبنا (أمثال 23: 26)، فيجب أن نفهم أنّه يطلب أن نصدقه الحبّ في أعماق أعماقنا، أي أن نطهّر قلوبنا باستقباله فيها. فالله لا يسكن القلوب الصدئة. وهذا، من دون تكرار، يعني أنّ المسيحيّة لا تحتمل أن نحصر عبادتنا لله بما نعرفه عنه، ولا حتّى بالتزامنا صلوات الكنيسة فحسب. المسيحيّة الحقّ مسرحها قلب لا يخرج من الكنيسة، أو قلب يغدو، بقبول النعمة، كنيسةً لله.
أحيانًا، يخالجني شعور بأنّ الإنسان، إن أَسَرَتْهُ سيّئةٌ، يصعب تغييره. وحتّى لا يسيطر عليّ هذا الشعور فأغرق في شرّ الإدانة، أستعيد أنّ "ما يُعجز الناس فإنّ الله عليه قدير" (لوقا 18: 27). ولا أريد، بهذه الاستعادة الشافية، أن أحصر عودتنا إلى الله به وحده. فنحن لسنا مسيَّرين. وعلى إيماننا بأنّ الله لا ينفكّ يبحث عنّا، ليشترينا لنفسه، ثمّة للإنسان دور ثابت في قبوله الله الذي يريدنا أن نتحوّل إليه. كلّ إنسان، مهما كان وضعه عسيرًا، يقدر، بالنعمة المعطاة له، على أن يحقّق هذه الإرادة الإلهيّة. وليس من شرط عليه سوى أن يقبل الله، ويعترف بقدرة الله. وهذا مبتدأه أن يقرّ، في داخل قلبه، بأنّه، خاطئًا، يرغب في العودة. والله باعث كلّ إقرار صحيح. وليس من خطيئة تبقى سوى التي نريدها أن تبقى. الله لا يعسر عليه أمر، يجب أن تعني لنا أن نتعلّم أن يعنينا رضاه فحسب. هذا، ويقيني الثابت أن ليس كالحقود شخصٌ يعنيه أن يبدل رضا الله برضا نفسه. تقول له نفسه إنّه على حقّ، فيطيعها. يلغي الحاقد عمل الله. والله لا يلغى. ولكنّنا نحن، متى قبلنا الوقوع في شَرَكِ الإثم، نلغي أنفسنا. وفي كلّ حال، يبقى الله، يبقى يعمل. ولربّما خير ما علينا إدراكه أن ندرك حقّ الله قبل أن تدركنا نهاية حياتنا.
في أعلى هذه السطور، عرّفنا الخطيئة بأنّها أن نحيا كما لو أنّ الله غير موجود. وهذا التعريف أساس الكلام على الخطيئة مطلقًا، ولا سيّما على الحقد. فالحقد، الذي يبدأ غضبًا في القلب، يوحي أنّ مَنْ يسقط فيه يحسب أنّ الله لا يرى داخله، أو لا يرى شيئًا. والله يرى، و"يفحص القلوب والكلى" (مزمور 7: 9). وهذا لا يعني أنّه يراقبنا، ليرى جمالنا أو بشاعتنا، بل إنّما ليعيننا على أن نسترجع حرّيّتنا، ونتجدّد كلّنا من داخلنا وخارجنا. فالحقد قد تثيره خاطرة سيّئة نقبل أن تراودنا. ومنطلق الشفاء منها أن نتراجع عنها توًّا، حتّى لا تسيطر علينا، ونبحث عن فرصة لإظهار عداوة أخفيناها. وعلينا دائمًا أن نؤمن بأنّ الله، الذي "يرى" الخواطر والظواهر، ينتصب أمامنا، ليساعدنا على تحقيق هذا التراجع.
كلّما قادنا أمر إلى أن نلغي قلوبنا بالحقد، يجب أن نذكر الله، ونطلب عونه. ففي هذين الذكر والطلب، يأتي الله، ليطرد عنّا كلّ سوء، ويعلّمنا الهدوء الذي هو أيقونة اتّحادنا به.