سنحاول، في هذه السطور، أن نتأمّل في بعض جوانب علاقة التلميذ بمعلّمه انطلاقًا ممّا قاله الرسول لتلميذه فيليمون، أي: "ولا أقول لك إنّك، أنت أيضًا، مدين لي حتّى بنفسك" (الآية الـ19).
بدءًا، لا يشكّ قارئ ورع في أنّ بولس لا يقصد، في هذا القول المعبِّر، أن يمنّن تلميذًا من تلاميذه الكثيرين الذين تعب على تربيتهم. فمن دعانا إلى أن نقبل بعضُنا بعضًا لمجد الله (رومية 15: 7)، لا يمكن أن يطلب شيئًا لنفسه. غير أنّ قوله لا يمنعنا نحن، أكرّر نحن، من أن نشعر بأنّ من تعب علينا، ليعرّفنا بالربّ، قد أعطانا ما لا يقدر على أن يردّه بشريّ في الأرض. هذا لا يغيّر معنى أنّ الخدمة هدفها مجد الله. هذا، إن وعينا حقّه، يجعلنا ندرك قيمة ما نلناه، لنقدّم، نحن بدورنا، أنفسنا لله وخدمة مجده.
كلّ ملتزم واعٍ لا يفوته أنّ الجماعة الكنسيّة، التي تضمّ أقوياء، لا تخلو من ضعفاء. وشأن من قوّاه الله أن يساعد كلّ أخ ضعيف، ليغدو، هو أيضًا، قويًّا في كلّ ما يرضي ربّه. ليس من إنسان، في الكون، ولد قويًّا هكذا من بطن أمّه. ثمّة من تعب عليه. ثمّة من تعب عليه، فيما كان عوده طريًّا. والتعب، بهذا المعنى الذي يجب أن نستشفّه من قول الرسول، دَين. والدَين لا يردّه المرء، متى اغتنى بالله، إلى من تعب عليه فحسب، بل إلى كلّ من يحتاجون إلى معونة أيضًا. يتعب عليك إخوتك، وتحفظ أنت، في قلبك، ما بذلوه من أجلك، لتمشي في إثرهم إنسانًا سويًّا، وتبذل نفسك في سبيل قيام الناس جميعًا، إن أمكن.
هذا يعني أنّ كلّ عضو، في الجماعة، سمته الرئيسة "أنّه خادم"، كما يؤكّد القدّيس غريغوريوس النيصيّ. لا يحتمل الالتزام الكنسيّ أن يعتقد أحد بأنّ حقّه على إخوته أن يخدموه، وأن يعفي هو نفسَهُ من واجب الخدمة. وإن قلنا كلّ عضو، فنقصد كلّ عضو، أيًّا يكن موقعه أو جنسه أو عمره. وقاعدة كلّ خدمة بارّة أن نضع أنفسنا في تصرّف الإخوة الذين هم صوت الله في الجماعة (أعمال 2: 14). ففي الكنيسة، لم يعطَ أيٌّ منّا أن يوظّف نفسه، أي أن يطلب موقعًا لذاته (عبرانيّين 5: 4). ما أُعطيناه جميعًا أن نلتزم حياة كنيسة كلّف الله أعضاءها، ولا سيّما الواعين منهم، أن يلاحظونا، ويرسموا لنا ما علينا عمله. ويكفي أن نرتبط بهم، ونأتي من برّ أفواههم، حتّى نعرف ما أراده الربّ لنا، ونحسن القيام به.
هذا يطرح سؤالاً تأخّرنا عن طرحه، وهو: ماذا أراد الرسول من تلميذه حتّى قال له ما قاله. والجواب عن هذا السؤال يفترض أن نعرف أنّ هدف هذه الرسالة أن يتوسّط واضعها لدى فيليمون من أجل أن يسامح عبده (أونيسيموس) الذي ربّما يكون قد سرقه قَبْلَ أن يهرب من منزله، ويلتقي ببولس (في ظروف لا نعرفها)، ويهتدي على يده. إذًا، ظرف الرسالة، وضمنًا معنى ما اخترنا التعليق عليه، أن يحضّ صاحبها هذا السيّد المجروح على أن ينسى جرحه، ويلتزم كلمة الحقّ خلاصًا له. فالتلميذ أساس حياته، وتاليًا نبع جدّتها، أن يرتضي الحقّ، ولا سيّما عن يد معلّمه. وإن ذكرنا أنّ القوانين المدنيّة، في ذلك الزمن، كانت تطلب قتل العبيد الهاربين، فيكون ما يطلبه الرسول ليس أمرًا بسيطًا. وهذا يدلّنا على أنّ المعلّم يحقّ له أن يطلب من تلميذه كلّ ما يرى فيه خلاصه. قد يحسب أحدنا أنّ بولس، بما طلبه، يتدخّل في ما لا يعنيه. وهذا، في الواقع، حسبان مخالف. ولا نقول مخالفًا لكونه يضع حواجز بيننا وبين من ربّونا فحسب، بل، أيضًا، لكونه يوحي أنّ مقتضى المسيحيّة يُحيا، حصرًا، ضمن جدران الكنيسة. إن كنّا نؤمن بأنّ "المسيح حياتنا"، فهذا يتطلّب أن تسود مشيئته حياتنا وقناعتنا كلّها. لقد أراد الرسول أن يذكّر تلميذه، بتهذيب شديد، بأنّ حقّه عليه أن يطلب منه، دائمًا، ما يرى أنّه ينفعه. وما على فيليمون، (وعلينا، أيضًا، إن عكسنا هذه الإرادة على ارتباطنا بمن ربّونا)، سوى أن يثبت أنّه يأتي من فم معلّمه.
ثمّ ما يبدو، واضحًا، أنّ بولس يطلب ما يطلبه خطّيًّا، أي فيما هو بعيد عن تلميذه. ففيليمون يحيا في مدينة كولوسّي، ويمكن أن يكون الرسول قد أرسل له رسالته من رومية أو من قيصريّة. لا تنحصر الطاعة بأن يقول المعلّم لتلميذه ما يريده منه وجهًا بوجه. فشأن التلميذ أن يسعى إلى أن يعرف ما يريده معلّمه، قريبًا كان أم بعيدًا، ويطيعه. فالطاعة هي للكلمة المبرِّرة. وهذا يعني أنّ من واجب التلميذ، أمام أيّ أمر يستصعب حلّه، أن يراجع معلّمه فيه. فالمواقف الصحيحة، وخصوصًا إن كان ما يستوجبها جديدًا علينا، تفترض استشارة الأقوياء. وهذا، من دون أن نستصغر أحدًا أو ننكر رجاحة عقل أحد، يمنعنا من أن نخمّن رأي معلّمينا، فنحجم عن سؤالهم. طبعًا، لم ينتظر بولس، في ما قرأناه، أن يسأله تلميذه رأيًا في ما أبداه هو له. عرف المشكلة، وقدّم حلاًّ لها. غير أنّنا قد نمرّ بمشاكل صعبة يجهلها من تعبوا علينا. ويجب أن نعود إليهم، ونركن إلى حكمتهم، حتّى لا نخالف بادّعاء ما لسنا عليه حقًّا، أو نرتجل حلولاً لا توافق خلاصنا. ليست هذه دعوة إلى تبعيّة مريضة، بل إلى وعي أنّ الالتزام المسيحيّ، الذي لا يحتمل تفرّدًا، يتطلّب إيمانًا ثابتًا بأنّنا، في غير موقف، نرتبط بعضنا ببعض.
قال الرسول لفيليمون: "لا أقول لك إنّك مدين لي حتّى بنفسك". وَفَهِمَ أنّ معلّمه "يثق بطاعته عالمًا أنّه سيفعل أكثر ممّا يقول" (الآية الـ21). هذا محور العلاقة بين التلميذ ومعلّمه، حتّى يكون كلّ تلميذ حرًّا من تسلّط العالم وشهواته، وقادرًا على أن يخدم الله الذي مشيئته أن يتمجّد بطاعتنا حقّه.