القيادة، في الكنيسة، تكليف. فَمَنْ كان إيمانه سليمًا، وحيا في الجماعة حياةً فاضلةً وأمينةً، لا يؤهّله برّه لأن يستحلي مسؤوليّةً في الكنيسة، أو يسلك سبلاً ملتويةً، ليحقّق مراده. وذلك بأنّ كلّ خدمة صالحة يبيّنها الله المنعم بمواهبه على الكلّ "لأجل الخير العامّ" (1كورنثوس 12: 7). بمعنى أنّ الله هو الذي يشير إلى ما أودعه في شعبه للبنيان. ولله، في الإشارة، طرائق وأصول. ففي تراثنا، الله أعطى الأساقفة، أوّلاً، أن يلاحظوا المؤهَّلين، وينتدبوهم للخدمة. وجعلهم، تاليًا، يؤكّدون قرارهم الحسن باستشارة المؤمنين الصالحين الذين كُلِّفوا، أيضًا، أن يوصوا بِمَنْ حلا لله برّه، وكان نورًا في الجماعة. فالتكليف استضاءة بنور الله الذي قَبِلَهُ بعضٌ قبولاً وافرًا، حتّى يساهموا في خدمةِ كنيسةٍ ليس مثلها شيء.
هذا بيّنه الرسول بقوله: "فليس صاحب الفضيلة المجرّبة مَنْ وصّى بنفسه، بل مَنْ وصّى به الربّ" (2كورنثوس 10: 18). فالتوصية بالنفس، أي قياس النفس بالنفس، فقدان للرشد (10: 12). وهذا قاله بولس في سياق دفاعه عن رسوليّـته التي هي تكليف الربّ. وقد علّمنا أنّه لا "يفتخر افتخارًا يتجاوز القياس، بل افتخارًا يوافق القياس الذي قسمه الله لنا قاعدة" (13). فإنّ الله شاء أن يبلغ رسوله إلى المؤمنين، في كورنثوس، ومعه "بشارة المسيح" (14). وأعطاه أن يطمح إلى أن يحملها إلى غيرهم (16)، ليطيب الفخر بالربّ وحده (17؛ أنظر: 1كورنثوس 1: 31؛ وقابل مع: إرميا 9: 22 و23).
لن ندخل في مضمون دفاع الرسول عن تكليفه. ولكنّنا سنستند إلى قوله الذي يؤكّد أنّ الانتداب لكلّ خدمة "يوصي به الربّ" (الآية الـ18). فالخادم الأمين لا يقدر على أن يوصي بنفسه، لئلاّ يبدو غير ناضج، أي فاقدًا لبّه، ويشوِّه عمل الله. والراشد هو مَنْ يتحرّك بموجب مشيئة الله، أي تكليفه. أي هو مَنْ ينخرط في حياة كنيسته من دون أن يوحي لنفسه، أو لغيره، بأنّه يليق بهذا المنصب أو ذاك. غير هذا استخفاف بالله الذي يعرف ما تحتاج إليه كنيسته. ولا يستطيع راشد أن ينخرط بهدف منصب. هذه انطلاقة سيّئة. ولو وصل، فلا يصل إلى الله، بل إلى وكر الأفاعي الذي في قلبه.
وإذا قال الرسول في موقع آخر: "مَنْ رغب في الأسقفيّة، تمنّى عملاً شريفًا" (1تيموثاوس 3: 1)، فلا يعني أنّ أحدًا قادر على انتداب نفسه بنفسه (أنظر: رسالة القدّيس إغناطيوس إلى أهل فيلادلفيا 1: 1). فالأسقفيّة عمل شريف، والانتداب لها عمل شريف أيضًا (وهذا يتبعه اختيار الكهنة والشمامسة). وإذا دقّقنا في المقطع الذي ورد فيه هذا القول الغنيّ، وما يحمله من وصايا "صادقة" (3: 1- 7)، لا يفوتنا أنّ هدف الرسول أن يذكّر بالفضائل التي يجب أن يتحلّى بها كلّ مرشّح للأسقفيّة. وما من فضيلة أعلى من الإخلاص الكامل الذي لا يبخل ببذل الدم، إذا دعت الحاجة، في سبيل الله ومجده (أعمال الرسل 22: 4، 25: 11؛ 1كورنثوس 4: 9؛ فيلبّي 1: 20 و21). غير أنّ فهمنا لا يكمل إن لم نعتقد أنّ بولس لم يرد، في هذا المقطع، أن ينحصر بتذكير المرشّحين للأسقفيّة بحقّ الفضائل العالية فحسب، بل جميع الذين تشرّفوا بهذه المسؤوليّة أيضًا. فَمَنْ جُعل أسقفًا، يجب أن يرغب في خدمته بإخلاصٍ دائم. لأنّ مَنْ نال درجةً عاليةً في الكنيسة، وخفّت رغبته، أو أهمل "شهادته الحسنة"، وقع، لا محالة، "في العار وفي فخّ إبليس" (الآية الـ7).
لا أحد يغار على كنيسة الله أكثر مِمَّنْ افتداها بدم وحيده. على هذا يؤسَّس كلُّ انخراط في الجماعة، وكلُّ حقِّ وعيِ أيِّ خدمة. ما من شكّ في أنّ غيرة الله لا تعني أنّ المؤمنين لا يغارون، هم أيضًا، على كنيستهم وحسن شهادتها. فإن لم يغاروا، لا نكهة لهم ولا فرادة. لكنّ كلّ غيرة صالحة إنّما هي استناد إلى غيرة الله (قابل مع: 1ملوك 10 و14). ولا تكون حقيقيّةً إن لم تتبنَّ القياس الذي أراده الله لكلّ تكليف. صحيح أنّ المؤمن، إذا غار على بيت الربّ وبلغ من الوعي مبلغًا، قد يزعجه بعض ما يظهر من بعض الذين كُلِّفوا الخدمة في الكنيسة. وقد يحلو له، بنيّة صالحة!، أن يأخذ مكانهم. وقد يحاول أن يقول رأيه لهذا أو ذاك من المؤمنين. وقد يتبنّى هؤلاء الرأي، ويحمله بعضهم إلى الأسقف. وقد يخضع الأسقف لرأي الطالبين! ولكنّ الغيرة الصالحة تمنعنا من هذا كلّه. الغيرة شرطها حسن المعرفة (رومية 10: 2). والمعرفة الحسنة هي ألاّ نجتهد في التفكير، أو التصرّف، بعيدًا من الله وما أسّسه ضمانًا لكلّ خدمة.
ذلك بأنّ أحدًا لم يُفوَّض أن "يأخذ لنفسه هذه الكرامة إلاّ الذي دعاه الله كما دعا هارون" (عبرانيّين 5: 4). وفهمُ هذا القول، أيضًا، رهن بما قلناه أعلاه. الله هو الذي يدعو. ويدعو الجميع إلى أفضل ما عنده، أي إلى القداسة. فما يجب أن يشغلنا جميعًا، وفي أيّ موقع كنّا، هو القداسة. المناصب (ربّما) لا تؤكّد القداسة. القداسة تؤكّد ذاتها. وَمَنْ أراد أن يختار لنفسه شيئًا أفضل، فليختر ما فضّله الله. غيرُ هذا لَهْوٌ و"عصافة تذروها الرياح". لا أريد أن أوحي بأنّ القداسة تمنعنا من قبول التكليف في هذه المسؤوليّة أو تلك، بل أن يصدق حبّنا لله وللإخوة، ونعيش ببرّ الالتزام. وإذا وقعت علينا "القرعة"، أن نشكر لله حبّه. ونشعر في قلوبنا، دائمًا، بأنّنا غير مستحقّين. ونسعى، بصدق كلّيّ، إلى أن نوافق هذا التكليف كلّ يوم، وكلّ اليوم، وإلى آخر أيّام حياتنا. فكم من المكلَّفين تاهوا، وكم سقطوا! ضمان التكليف أن نبتغي قداسة الله "التي بغيرها لا يرى الربَّ أحدٌ" (عبرانيّين 12: 14).
هذا شرط اختيار مَنْ كُلِّفوا أن يقودوا أنفسهم والمؤمنين جميعًا إلى الله الحيّ.