22ديسمبر

احتضان الإخوة

الإنسان يشبه الحقل في حاجته إلى أن يُرعى. وما دامت حقول الأرض يصعب أن ينبت زرعها إن لم تَروِها مياه السماء، فلا أحد، تاليًا، يمكنه أن ينمو إن لم يُحتضَن، و"يُنصَح بدموع".

في أزمنةٍ لا يمكن أن يكمل وصف عيوبها إن لم نذكر "الكلّ مشغول"، يتحدّانا أدبنا النهضويّ في أن نوافق، موافقةً ليس فيها أيّ نتوء، أنّ: "مرشد الفرقة يتّخذ حياة الفرقة، ويدير اجتماعاتها كلّها، ويكون على اتّصال وثيق بأعضائها جميعًا" (أنطاكية تتجدّد، صفحة 426). لن أتكلّم، في هذه السطور العجلة، على المرشدين ودورهم. فكلّ ما يعنيني، الآن، أن نتأمّل في خاتمة هذا القول المنقول هنا، أي أن يبقى المرشد "على اتّصال وثيق" بأعضاء فرقته، ونرى ما يعنينا جميعًا منها، في أيّ موقع كنّا.

قلتُ "يعنينا جميعًا"، وأقصد، أوّلاً، المعتبَرين في جماعة "النهضة". فالرعاية المحتضِنة لا يمكن، واقعيًّا، أن يقدّمها، كما يجب، سوى الإخوة "الروحيّين" (غلاطية 6: 1)، أي الذين لا يهمّهم أمر سوى أن يجتمع كلّ أخ إلى الله أوّلاً. وهؤلاء، الذين ينبغي أن يكونوا من المرشدين، قد يكونون، تاليًا، أشخاصًا آخرين خصّهم الله بوعيٍ قَبِلوه. فالحياة في الجماعة، كلّها كلّها، أن يعنينا أن نحيا في قربى دائمة. ولا أقصد، حصرًا، أن نتقارب في أمور التقوى التي هي حرّة من كلّ حصر، بل في غير أمر ينفع ثباتنا في هذه الحياة الدنيا أيضًا. فنحن إخوة. وكلّ ما يعني أيّ أخ من إخوتنا، وكلّ ما يقلقه ويبكيه ويفرحه، يجب أن يعنينا كلّنا بأجمعنا.

تعوّدنا أن نذكر أنّ الاتّصال الوثيق بعضنا ببعض يخدم رجاحة لغتنا الإرشاديّة. وليس لنا بعيدًا من التزام هذه العادة من خير يُرجى، إن في ما نقوله، أو في ما يتكشّف لنا من نور. فالخير كلّه أن نبقى على أنّ هذا الاتّصال هو الذي يؤهّلنا لأن نعرف كلّ أخ وهمومه ومشاكله وسقطاته ووثباته، فنخدم مشيئة الله، وننتعش بإطلالات منه. في الدنيا، كلّ إنسان كاد أن يكتفي بنفسه، ويعيبنا أن ننقل الدنيا إلى حياتنا الكنسيّة. وفي الدنيا، مدى الناس جني مال ورسم لمستقبل أفضل، ويعيبنا ألاّ نرى، في إخوتنا، غنانا ومستقبلنا الأفضل. هل أقصد أنّ كلاًّ منّا، ليكمل وعيه، يجب أن يترك الدنيا، وينصرف إلى الإخوة انصرافًا كلّيًّا؟ عمومًا، معظم الناس يردّون على مقتضى الالتزام بمثل هذا التطرّف. الناس، لا سيّما في أمور الله، إن قلتَ لهم ما يذكّر بمقتضاه، يردّون بما يذكّر بمقتضياتهم! تقول لهم: "هذا"، فيسألون: "وماذا عن ذاك؟". وهذا لا يعني غير أنّنا لم نفهم أنّ "للربّ إلهك السماء وسموات السموات والأرض وكلّ ما فيها" (تثنية الاشتراع 10: 14)، أي لم نفهم أنّ السماء، التي "باتت هنا فعلاً"، لم يبقَ أيّ فاصل بيننا وبينها.

هذا أقوله فيما كلّنا نعرف أنّنا أخذنا، في غير موقع، أن نكتفي بأن نلتقي بعضنا ببعض، تقريبًا حصرًا، في اجتماعاتنا الأسبوعيّة وبعض لقاءاتنا العامّة. لا أريد أنّ هذا مردّه أنّنا كلّنا نجهل أهمّيّة القربى، أو أنّنا كلّنا نبرّر أنفسنا بأعمال أخرى تأخذنا (لن أجزم لا في هذا الأمر ولا في ذاك). لكنّني أريد أنّنا، في أحيان كثيرة، نخاف من أن نتدخّل في ما لا يعنينا. هذا عيب تسرّب إلينا من وجهةٍ لا أستطيع أن أحدّدها حقًّا. فقط، أخمّن أنّ ثمّة بيننا مَنْ يحسب أنّ القربى، كما هي موصوفة، تخصّ، في كنيستنا، الآباء الروحيّين فحسب. لن أردّ على عيب هذا الحصر، الذي يحتاج الردّ عليه إلى صفحات قد تكون كثيرة، بل سأرجو أن نفكّر في سبب واحد للوعي، عرفناه، قام على أنقاض التواصل. هل يمكن أن نعرف؟ لا أعتقد. لا يوجد. فالوعي مرهونٌ قيامُهُ بأن نتمثّل بالربّ الذي اتّخذنا كلّيًّا (ما خلا الخطيئة)، لنتّخذ بعضنا بعضًا كلّيًّا أيضًا. "فتقبّلوا بعضُكم بعضًا، كما تقبّلكم المسيح، لمجد الله" (رومية 15: 7)، يمكن أن تعني: "اتّخذوا بعضكم بعضًا، كما اتّخذكم الربّ"، ويمكن أن تعني: "اعملوا كلّ ما يخدم كونكم إخوة". وهذا كلّه يعني أنّ خوف بعضنا (أي من أن نتدخّل في ما لا يعنينا) لا مكان له في سياق شركة الحياة. فهذا لا يخالف، فقط، أنّ رعاية كلّ مَنْ يحتاج إلى رعاية تخصّنا كلّنا، بل، أيضًا، أنّ المسيح أتى إلينا مثلما أتى. كلّ هرطقات الأرض أنجبها إنكار أنّ ابن الله "صار جسدًا، وسكن بيننا". والويل لنا إن تسرّبت إلينا هذه الهرطقة!

في مطلع هذه المساهمة، أشرت إلى عبارة حارّة أوردها الرسول في سياق توديعه شيوخ الكنيسة في أفسس (أي: يُنصَح بدموع). والعبارة هي جزء من الآية التالية: "فتنبّهوا واذكروا أنّي لم أكفّ مدّة ثلاث سنوات، ليل نهار، عن نصح كلّ منكم وأنا أذرف الدموع" (أعمال الرسل 20: 31). لا يعوزنا عناء كبير، لندرك بلاغة هذا القول الذي يرسم، بوضوح ظاهر، مقتضى أن نتواصل بعضنا مع بعض خدمةً للحقّ. إن كنّا نعرف أنّ كلّ إنسان قيمة في جسد المسيح، فليس لنا سوى أن نتمثّل بما قاله الرسول هنا، أي أن نصرف أنفسنا، ليل نهار، ليقوم كلّ إنسان، في الجماعة، إلى القامة التي أراده ربّه عليها. وكم يحلو لله أن نرى في هذه الآية، ضمنًا، وصيّةً تخصّ جميع الإخوة الذين يوجّه إليهم النصح. ففي الواقع، لا يتمّ نصحٌ إن حاول أحدٌ أن ينصح أخًا له، بل إن قُبِلَ نصحه دائمًا. وهذا يفترض أن نفتح قلوبنا بعضنا لبعض، وتاليًا أن نثق بأنّ الله، الذي خاطبنا أخيرًا بابنه، ما زال، هو نفسُهُ، يخاطبنا في كلّ مَنْ تحييه أبوّتُهُ.

ليس، باعتقادي، من حياة تكمل إن لم نشبه ما يطلبه أدبنا النهضويّ. فالنهضة أن ننهض إلى كلّ كلمة راضية، تُركت لخيرنا، لنكونها نحن أينما حللنا أو نزلنا، ونحيا، ونحيي.

- مجلّة النّور، العدد الثامن، ٢٠١٢
شارك!

جميع الحقوق محفوظة، 2023
Skip to content