لم يعرف تيّارنا النهضويّ كلامًا على الالتزام الكنسيّ يقلّ عن تخصيص حياتنا لله. فقاعدة الالتزام، التي استلمناها تامّةً، ما قاله قدّيس من ربوع كنيستنا الأنطاكيّة، أي "المسيحيّ لا يملك نفسه، وليس بسيّدها. إنّ وقته لله، ولا يعمل إلاّ من أجله" (رسالة القدّيس أغناطيوس إلى بوليكربس 7: 3).
أن نعمل لله، أو أن "نعمل مع الله" (2كورنثوس 6: 1)، يعني أن نربط مصيرنا بمصيره. أن نعتبر أنفسنا ومشاغلنا وهواجسنا وما نطمح إليه في الأرض، يحكمُها كلَّها ما "خرج من فمه" (متّى 4: 4). أن نضع كلّ جهدنا وإمكاناتنا وعلمنا وخبرتنا في خدمة مجده. أي ألاّ نفضّل شيئًا من دنيانا، أيَّ شيء إطلاقًا، على خدمة مَنْ "أحبّنا، وحلّنا من خطايانا بدمه" (رؤيا يوحنّا 1: 5).
غير أنّ هذا، حركيًّا، مصيرُ تحقيقِهِ يرتبط بأن نكون، معًا، في فروعنا ومراكزنا، وفي أيّ لقاء، نقرّره (حلقة جامعة، دورة تدريبّة، اجتماعات أُسر، وما إليها)، يتجاوز المواقع التي نمضي فيها نهارنا وليلنا. فنحن، فيما نلتزم مواقعنا التي نحيا فيها، لنا دعوةٌ راهنةٌ أن نبقى ممدودين إلى كلّ وجه نعرف أنّ الربّ خصّه بحبّه، لنستقي من خبرته ما يُحيينا، ويشدّدنا، ويقوّينا، ولنصدقه ممّا مُنحناه مجّانًا. وحسبي أنّ هذا لا يحتاج أيّ إنسان نهضويّ، يعينه غنى قلبه، إلى مَنْ يقنعه به. يأتي منه. يقوله. يعلّمه. يلهج به ليل نهار، في وقت مقبول وغير مقبول، في لقاء مقرَّر أو مصادفة عابرة، مشى أو قعد، نام أو قام. فإن كانت "الحياة ممكنةً ما دمنا اثنين" (فيكتور هيغو)، فكيف إن كنّا "أعضاء جسد واحد في المسيح"، "أعضاء بعضنا لبعض" (رومية 12: 5)؟
أمّا إن خصّصتُ اللقاءات التي تتجاوز مواقعنا، فأعرف، كما غيري، أنّنا، إن أهملناها، فلن نكون قادرين على أن نحاكي بعض ما فعله الإخوة الذين قرّرنا، يوم التزمنا النهضة، أن نحذو حذوهم. وأقول "بعض ما فعلوه"، لكونهم انتهجوا ألاّ ينتظروا لقاءً منظَّمًا، ليخرجوا إلى إخوتهم، أينما حلّوا أو نزلوا. كانوا يفعلون طبيعيًّا. وإنّما كانوا يفعلون، لإيمانهم بأنّ ما من أمر، نظير أن يلتقوا معًا، يجعلهم قائمين في خطّ خلاص واحد، وإصلاح واحد، وطموح واحد، ووحدة آمنوا بأنّها حياتهم ومصيرهم. فالإخوة، الذين ولدونا في المسيح، لم يعتقدوا، يومًا، أنّ الوحدة الحركيّة تختزلها اجتماعات الفرق، أو المراكز، أو الأمانة العامّة، أو المؤتمرات الحركيّة العامّة، بل فهموا أنّ هذه، التي لا مثيل لأهمّيّتها في سياق تمتين الوحدة، تطلب، لزامًا، لقاء الحياة، أي خروجًا إلى كلّ مَنْ نعرف أنّ مصيرًا واحدًا يجمعنا به. وإن سألنا أيًّا من الإخوة الذين ما زال بعضهم أحياء يرزقون، ونرجو لهم سنواتٍ مديدةً، فلن يفوتنا، جوابًا، أنّهم لم يقبلوا، لحظةً، أن تدخلهم معثرة تحول دون إتمام ما قلتُ إنّهم كانوا يفعلونه طبيعيًّا، لا وضع فروعهم ومراكزهم الداخليّة، مهما كان مُلِحًّا، ولا ما يمكن أن يكلّفهم سفرهم، تعبًا أو مالاً، من قرية إلى أخرى، أو من مدينة إلى مدينة، أو بلد إلى آخر. كانوا على قناعة راسخة أنّ الربح، الذي سيجتنونه معًا، أعلى، بما لا يقاس، من أيّ أمر آخر. وهذا، عندي، من صميم رؤيتنا النهضويّة. فالحركة، التي رأت أنّ حياتنا لله فحسب، أرادت، ضمنًا، أن ننهض من كلّ بُعْدٍ مؤذٍ واكتفاءٍ بالنفس مميت.
هذا، من دون أن أخرج عمّا بدأتُ به، يدفعني إلى أن أذكر، بثقة كلّيّة، أنّ معظم أفكارنا الحركيّة تشبه "سلّم يعقوب" فعلاً! وحتّى أستبق فغرَ شفاهٍ يمكن أن تفغر، دونكم هذه الفكرة: اقترح بعضنا أن يخصِّص الحركيّون، بعد أن ينهوا دراستهم الجامعيّة، أي قَبْلَ أن يدخلوا دنيا العمل، سنةً كاملةً، ليخدموا في الحركة (كلٌّ حسب موهبته وما يُطلب منه). وهذا، الذي يجب أن نستعيد الارتقاء إليه، اليوم قَبْلَ غدٍ، يدلّ على وَلَهٍ لا يشبهه وَلَه، على جنونٍ ليس مثلَهُ جنون، أي، لعمري، يدلّ على أنّ الحركيّين لم يكونوا يفكّرون في أنفسهم، بل يحيون أنّ الالتزام دَيْنٌ، "دَيْنٌ لا يُردّ". يدلّ على أنّهم يعون أنّ مَنْ هداهم إلى معرفة الله أبي ربّنا يسوع المسيح يستحقّ أن يقدّموا له حياتهم كلّها. سنة هي تعبير! سنة دلالة على أنّهم كانوا يفكّرون من دون أيّ حرج، حرج مصير مستقبلهم، حرج خسارة ما يمكن أن يجتنوه في سنة عمل، حرج محيطهم وَمَنْ لهم في حياتهم رأي. سنة تبقى آثارها تفور، وإن خرجوا، بعدها، إلى دنيا العمل. سنة لا تُنسى. سنة تسلخ من أفواههم أن يقولوا يومًا: "قد اشتريت حقلاً، فلا بدّ لي من أن أذهب، فأره. اسألك أن تعذرني". أو: "قد اشتريت خمسة فدادين، وأنا ذاهب لأجربّها، أسألك أن تعفيني". أو: "تزوّجت، فلا أستطيع أن أجيء، أسألك أن تعذرني" (لوقا 14: 18- 20). سنة حبلى بعمر لا يُخَمَّن بنحو. سنة تعني الحياة، الحياة كلّها. سنة أين حياتي منها؟
مهما تغيّرت الأزمنة، يبقى هذا "الجنون" موضوعًا أمامنا، لنأتي منه دائمًا. فكيف نبقى في "جنون"؟ كيف نبقى على عهد حبّ مَنْ أحبّنا، لنحبّه، ونحبّ بعضنا بعضًا كما نحبّه، ونزرع الدنيا من أنوار حبّه؟ كيف لا نفضّل عليه أنفسنا وما يمكن أن نكونه أو لا نكونه؟ كيف لا يعيقنا أيّ شيء عن أن نرتقي إلى البذل، بذل الوقت، بذل النفس، بذل المال، في سبيل الله وخدمة مجده؟ كيف نبقى نسعى إلى أن نشبه ما أريد لنا أن نشبهه؟ كيف نكون أنفسنا، أي أشخاصًا يؤمنون بأنّهم عُمّدوا، ليبقوا جددًا في كلّ ما يشتهي ربّنا أن يراه فيهم؟ هذا إرث يستحقّ أن نعمل من أجله، ونخصّص حياتنا، كلّ حياتنا، له.