20سبتمبر

بالنعمة نلتم الخلاص

هذه العبارة الرسوليّة، التي ترينا أنّ الله وهبنا خلاصه مجّانًا لنسعى إلى إرضائه ما حيينا، هي عبارة اعتراضيّة أوردها بولس في سياق قوله للمؤمنين في كنيسة أفسس: "ولكنّ الله الواسع الرحمة، لحبّه الشديد الذي أحبّنا به، مع أنّنا كنّا أمواتًا بزلاّتنا، أحيانا مع المسيح (بالنعمة نلتم الخلاص)، وأقامنا معه وأجلسنا معه في السماوات في المسيح يسوع" (2: 4 و5).

لا نرى أنّه يعوزنا أن نعلّق على كلّ ما اقتبسناه هنا، لنفهم معنى ما قاله الرسول. فالعبارة، التي اخترناها عنوانًا لهذه السطور، تكشف قصده كلّه. ويعنينا كثيرًا، أو قلْ بثقة: يعني الله أن تحكم هذه العبارة حياتنا في المسيح دائمًا. فالربّ إنّما هو المنعم علينا بكلّ ما يدعم خلاصنا. وهذا إنعام لا ينحصر بعلاقته بنا أفرادًا مبعثرين، بل يوجّهنا إلى كلّ ما يجعلنا أعضاء ذوي نفع في كنيسته الجامعة. فالمسيحيّ، الذي يؤمن بأنّه يحيا بالنعمة المخلِّصة، هو شخص لا يمكن أن يرى نفسه مفصولاً عن جماعته، بل يندمج معهم في حياة واحدة، أو مصير واحد. إن التقوا، يكون معهم. وإن صلّوا، يصلّي معهم. وإن خدموا، يشاركهم في ما يعملونه. وإن أقاموا أيّ نشاط، يدعم وجودهم وشهادتهم، يجاهد مع المجاهدين. وإن فرحوا، أو فرح أحدهم أو حزن، يرى نفسه شريكًا إن في الفرح أو في الحزن. وإن احتاج أحدهم إلى نصيحة أخويّة، يقدّمها قادرًا من دون تعالٍ، أي بـ"روح الوداعة" (غلاطية 6: 1). وهذا يفعله، وفق ما ناله، مجّانًا. وإنّما يفعله لكونه يعتقد أنّ علاقة الله به هي عينها أيقونة علاقته بالآخرين، أيًّا كانوا. فمن معاني النعمة أن ترى ذاتك غير مستحقّ ما نلته، لتحيا بدوام الشكر، وتخدم من دون تمييز، أو محاباة.

هذا يدلّنا على أنّ مَنْ يحيا بنعمة الله إنّما هو إنسان فاعل. والفعل يفترض حضورًا يختلف عن الغياب اختلافًا جوهريًّا. فلا يعني الغياب شيئًا. الغياب مساءة، لعنة، كارثة. ومن دون أن نقصد جرح أحد، إن عنى غيابي شيئًا، فلا يعني سوى أنّني إنسان لا تعنيني المحبّة. لا يعنيني أن أُحِبّ، ولا أن أُحَبّ. الحبيب هو الحاضر، أي الذي عِشرتُهُ إخوتَهُ تكوّنه، وتساهم في تكوينهم. ومن أسمى مقتضيات المحبّة أن "تصنع الخير إلى جميع الناس، ولا سيّما إلى إخوتك في الإيمان" (غلاطية 6: 10). أن تصنع إليهم الخير، أي أن تريدهم أن يثبتوا في نعمة الله. وكيف يمكن أن تتحقّق هذه الإرادة من دون حضور؟ لا يمكن. يستحيل!

ربّما يعتبر أحد أنّ ما يقرأه، هنا، هو إسقاط على ما اقتبسناه من فم الرسول. وهذا، لعمري، خطأ لا يعني سوى أنّني لا أريد أن أفقه من المسيحيّة شيئًا. إذ إنّ كلّ المسيحيّة أن أعتقد أنّ الله أنعم عليَّ بأن أكون عضوًا في جماعة يسودها بمحبّته وواسع رحمته. لو كان مقتضى النعمة يفترض شيئًا آخر، كما أن أحرّر نفسي من كلّ ارتباط بالآخرين وأكتفي بعلاقة بالله مجرّدة من كلّ وجه بشريّ، لكانت المسيحيّة شيئًا آخر تمامًا، أو لكان "إيماننا باطلاً". ويجب أن نرى، في قولة بولس، دعوةً إلى الارتباط في بشر ليس جميعهم حلوين بالضرورة. فبالنعمة نلتم الخلاص، يتضمّن معناها هذه الدعوة أيضًا. ويتضمّنها، لا لأن ما من جماعة بشريّة في الأرض تسود الحلاوة كلّ أعضائها، بل لأنّ الله هو، وحده، يجب أن يكون، في الجماعة، قصدي وحلاوتي أوّلاً ودائمًا. وهذا عينه ما ينبغي لي أن أحسبه فرصتي السانحة، لا لأبرّر نفسي وغيابي بإعلائي بشاعةً أراها في أناس أعرف أنّ الله، على كلّ شيء، يحبّهم ويريدني أن أجاهد معهم، بل لأكتشف قيمة ما أعطاني من نِعَمٍ لا يمكن أن أتبيّنها، ولا أن أثمّرها، من دون أن أكون واحدًا معهم.

إن كنتُ أبتغي الحقّ، فثمّة أمر لا يمكنني أن أعتبره ثانويًّا. وهذا مفاده أنّ الله أنعم عليَّ بخلاصه، لأخدم خلاصه في جماعته أوّلاً، وأينما حللتُ أو نزلتُ تاليًا. المسيحيّ شخص مفطور على أن يخدم الحقّ، ما دام حيًّا. لا يقدر مسيحيّ، يؤمن بأنّ الله "رفعه من المزبلة"، على أن يصرف وجهه عن أيّ وسخ يراه في مَنْ يراه من أهل الأرض. لستُ بقائل إنّ المسيحيّ، الذي يعنيه أن يخدم طهر الله، سيتقبّله جميع إخوته برضًا كلّيّ دائمًا. فقد نأتي إلى أخ بنصيحةٍ، تفيده كثيرًا، ويرفضها، ويرفضنا بفظاظة جارحة. والذين يرفضونك، من دون سبب، يصعب عدّهم. والمرجّح أنّهم سيبقون كثرًا، لأنّ رئيس هذا العالم يكره الخير وعمل الخير، أي يكره النعمة التي نلناها وإخوتنا، مَنْ يعرف منهم وَمَنْ لا يعرف. لكنّ هذا، الذي لا بدّ من أن نلقاه في خدمتنا، يمنعنا من أيّ استقالة لا بدّ من أن تجرح الله. فكلّ شأني أن يفرح الله بي. وهذا يضطرّني إلى أن أذكّر نفسي، دائمًا وأبدًا، بأنّ الله وهبني ما وهبني إيّاه مجّانًا. الاستقالة، أي الاستقالة من خدمة أيّ أخ رفضني، هي من المواقف المريضة التي تبديني أنّني أرى نفسي مستحقًّا ما وهبتُهُ. ما يدفعني إلى خدمة أخي، "سبعين مرّةً سبع مرّات"، هو إيماني بأنّني "خادم لا خير فيه. وما كان عليَّ أن أفعله، فعلته" (لوقا 17: 10). وإن أكملتُ خدمتي كما يليق بالله، وبقيتُ مرفوضًا، فشأني أن أرفع رافضي إلى مَنْ بيده حلّ كلّ عقدة. فأنا لستُ مَنْ يغيّر الناس. مَنْ يفعل، هو واحد. وأن أرفع مَنْ يرفضني إلى الله، لهو الأمر الوحيد الباقي الذي يعني أنّني أؤمن بأنّه هو، وحده، مَنْ يسدّد الناس إلى ما فيه خيرهم.

هذه العبارة، التي وصفناها بالاعتراضيّة، هي صورة حياتنا الجديدة. فكلّ ما أنعم الله علينا به إنّما كان، لنكون خدّامًا في جماعةٍ اشتريت بثمنٍ غالٍ، ويبقى طموحنا أن "ننال رضاه" (2كورنثوس 5: 9).

- مجلّة النّور، العدد السابع، ٢٠٠٩
شارك!

اضف رد

جميع الحقوق محفوظة، 2023
Skip to content