كلّ كلام على الزمن الفصحيّ، أي الزمن الذي تقدّمه ليتورجيا كنيستنا في موسم عيد الفصح، يفترض فهمه وإدراك متطلّباته وعيًا لهدف الزمن الذي أعدّنا له، أي زمن الصوم الكبير المقدّس.
من دون إطالة، يعرف العارفون أنّ موسم الصوم الكبير شكّلته ظروف تاريخيّة عدّة، ومنها قبول "الموعوظين"، وهم يهود ووثنيّون آمنوا بالمسيح ربًّا ومخلِّصًا، في عضويّة الكنيسة، وتحديدًا في قدّاس "سبت النور". فالثابت أنّ ما دفع الكنيسة إلى أن تختار مواضيع الزمن الفصحيّ، ولا سيّما أناجيل الآحاد الخمسة التي تلي العيد وتسبق وداعه، هو أن تُحدّد، لمَن استناروا بالمعموديّة، ما ينتظره الله منهم في خدمة هذا العالم المظلم. أي، بكلام آخر، فترة زمن الصوم الكبير هي، ليتورجيًّا، حبلى بالزمن الفصحيّ.إذًا، مقتضى خدمة المعمَّد تبيّنه الآحاد الخمسة: أحد توما، أحد حاملات الطيب، أحد المخلّع، أحد السامريّة، وأحد الأعمى. وأقول خدمة "المعمَّد" بصيغة المفرد، وحسبي أنّ القارئ النجيب يمكنه أن يلاحظ أنّ لكلّ رواية من الروايات الإنجيليّة التي نتلوها في هذه الفترة، باستثناء تلاوة أحد حاملات الطيب، شخصيّتها الأساس. وهذا يدلّنا على المعموديّة التي يتقبّلها كلٌّ منّا شخصيًّا. وإذا استثنينا أحد حاملات الطيب، لا نعني أنّه يخلو من ذكر المعموديّة. فهذا الأحد، الذي نذكر فيه أيضًا يوسف الراميّ ونيقوديمس اللذين تتلمذا على الربّ ليلاً أو خفيةً (يوحنّا 19: 38 و39)، يعبق طيب المعموديّة به. ففي مقطعه الإنجيليّ (مرقس 15: 43- 16: 8)، نرى شابًا لابسًا حلّةً بيضاء، وهي حلّة المعموديّة. ونرى القبر فارغًا، وهو قبر يسوع وقبورنا جميعًا أيضًا. ونقول قبورنا في سياق ذكر المعموديّة، لكونها، من حيث هي مشاركة في موت المسيح وقيامته (رومية 6: 3- 5)، هي التي تؤهّلنا لأن نفهم، بواقعيّة، أن "لا ميتَ في القبر"، كما يخطب فينا القدّيس يوحنّا الذهبيّ الفم في عظة الفصح (قابل مع: متّى 27: 52 و53).
من عمق مدلول الزمن الفصحيّ أنّ النصوص الإنجيليّة المذكورة تقيمنا أمام أشخاص عاديّين تساقطت عليهم أنوار الفصح من دون أن يستحقّوها. فتوما شكّ في قيامة الربّ، ثمّ آمن. والمخلّع والأعمى يُعتبران، في رأي مجتمعهما، من الخطأة المرفوضين إلهيًّا. والسامريّة، في رأي الفكر اليهوديّ الرسميّ، غريبة دنّس أسلافُها أنفسَهم بزيجات مختلطة. فهؤلاء جميعًا جعلتهم معموديّتهم، أو الفصح الذي رمى ربّهم أنواره عليهم، أشخاصًا جددًا، أي غير عاديّين، أي "من أهل بيت الله". وهذا هو حالنا إن فهمنا أنّنا معمَّدون، أي مخصَّصون لله، وأخلصنا لمعموديّتنا اليوم وغدًا. فكلّ المعموديّة، أو كلّ الزمن الفصحيّ، أن نعرف أنّ مياه المعموديّة، التي نزلنا فيها، تطلب أن نكون أمينين لها، أي أن نبقى فيها أبدًا. فالمعموديّة هي التي تعطينا أن نكون لله في كلّ شيء. وهذا هو سرّ الحياة الجديدة التي ما بعدها حياة.
إلى هذا، يجب أن نلاحظ أنّ أبطال هذه النصوص، الذين "عمَّدهم" الربّ بلقائه بهم، اعترفوا جميعهم بأنّه، وحده، سيّد حياتهم. لقد قصد الربُّ كلاًّ منهم في مكان وجوده، والتقى بثلاثة منهم قرب مواضع مياه (المخلّع: قرب بركة بيت حسدا؛ والسامريّة: قرب بئر يعقوب؛ والأعمى أرسله إلى بركة سلوام)، ونقلهم من عراء ضياعهم إلى شهود كبار له. وهذا يؤكّد أنّ المعموديّة هي أشخاصٌ، (أي ليست مياهًا فقط)، كلُّ ما فيهم بات، بنعمة الله، معمَّدًا: قلوبهم، عقولهم، آذانهم، عيونهم، أيديهم، أرجلهم، وأفواههم. فالمعموديّة هي، دائمًا، ألاّ يشغلنا أمر عن أن نشهد، أمام الملأ، لمَن أحبّنا حبًّا لا يوصف.
حتّى نفهم ما ذكرناه هنا فهمًا واقعيًّا، سنعلّق، سريعًا، على بعض ما جرى في أحد توما.
كلّ مَن شارك في أحد توما لا بدّ من أنّه سمع أنّ التلاميذ، الذين أتى إليهم يسوع في يوم قيامته، أخبروا الرسول الغائب أنّهم قد رأوا الربّ. ولكنّ توما أبى أن يصدّق قَبْلَ أن يرى بنفسه علامات صَلب معلّمه. وأتاهم يسوع بعد أسبوع على لقائه بهم، وأعطى مَن شكّ فيه أن يؤمن بقيامته، ويعترف به "ربّي وإلهي!". وهذا يوجب أن نلاحظ أمرين. الأمر الأوّل أنّ النصّ الإنجيليّ يذكر لنا أنّ جميع التلاميذ شهدوا، أمام توما، بقيامة الربّ. لم يقل الإنجيليّ إن واحدًا أو اثنين أو ثلاثة فعلوا ذلك، بل جميعهم. وهذا يعني أنّ كلّ مَن "أراه الربّ نفسه حيًّا ببراهين كثيرة" دوره أن يشهد له أمام أناس ربّما غياب الكثير منهم يدفعهم إلى ألاّ يصدّقوا أنّه قد قام حقًّا. ويجب أن نلاحظ، تاليًا، أنّ توما، الذي تحرّر من شكّه لمّا أتى الربّ ثانيةً، لم ينقطع عن حلقة التلاميذ، أو أنّهم هم قد استطاعوا أن يقنعوه بأن يلازم العلّيّة التي تراءى لهم الربّ فيها أوّلاً. ومعنى ذلك أنّ شهادة المعمَّد لا تكمل إلاّ إذا أتى بمَن يشهد لهم، شخصيًّا، إلى الربّ. إن كان دورنا أن نشهد، وهذا هو مقتضى حالنا طبعًا، فهذا لا يعني أنّنا مصدر القناعة التي ننتظر أن تزيّن الناس جميعًا. كلّ هدف شهادتنا أن يأتي كلّ مَن نشهد لهم إلى الربّ واهب النعم المقنِعة وحده.