"إنّ الدهر سيستمرّ في الوقوف حزينًا على رتاج أبوابنا، وسيبقى بعضنا يحتكر النار،
وبعضنا يحتكر البرد، وسنشبه، معًا، صارية الموت في سفينة الريح"
(دولة الرئيس نبيه برّي، جريدة النهار، الخميس ٢٤ أيّار ٢٠٠٧).
دعا الأخ الأمين العامّ، في حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة، بعض الإخوة أعضاء الأمانة العامّة إلى اجتماع في دير النوريّة - شمال لبنان، ليبحثوا في أمور كنسيّة وحركيّة مُلِحّة. على الطريق من منزلي الكائن في الحازميّة، بدت حركة السير طبيعيّة نسبيًّا. وأخذت تفقد طبيعيّتها قَبْلَ مفرق الدير. أخبار البلد قاتمة. والحرب، في مخيّم "نهر البارد"، تفرض رعبها على معظم أرجاء المدى الشماليّ.
كان ذلك صباح يوم سبت. وفي مثل هذا اليوم، تكون الطريق، في العادة، مكتظّة بالسيّارات. فأهل الشمال، الذين يلازمون العاصمة وجوارها إن للعمل أو للدراسة، يحجّ معظمهم، في نهاية كلّ أسبوع، إلى قراهم، ليستريحوا من اكتظاظ المدينة وضجيجها المرهق، ويركنوا، تاليًا، إلى وجوه أحبّتهم. هذا اليوم، لم تكن العادة هي إيّاها. فأمام خطر الموت، تبقى ملازمة كلٍّ موقعَهُ خيارًا أسلم. الضجيج شرّ أهون. كلّ أمر، مهما بلغت ضرورته، يمكن تأجيله، على رجاء، إلى حين.
وصلتُ إلى مقرّ الاجتماع في أوان الظهر. الإخوة، ولا سيّما المثقلون بهموم شمالهم، كانوا أوّل الواصلين. أمّا الآتون من بيروت، فمعظمهم وصلوا متأخّرين. أخّرتهم ضرورات العمل. كنّا، إذا تقرّر أن نجتمع في الشمال مثلاً، نتّفق على أن نأتي معًا. هذه المرّة، افترقتُ عنهم لاضطراري إلى المشاركة، مساءً، في إكليل في كنيسة جبيل. الاجتماع، الذي دام ما يزيد على الثلاث ساعات وتخلّله غداء أعدّه أهل الدير، كانت دوافعه بعض أمور يستصعبها الإخوة هنا وهناك، وخطوات لا يحتمل بتّها انتظارًا، وأنشطة يجب أن تقرّ قَبْلَ حلول الصيف.
إلى برنامج الاجتماع، كان يعنيني لقاء وجوه إخوة كنّا، في الفترة الأخيرة، نتواصل هاتفيًّا. لم نتكلّم في السياسة التي ليست هاجسنا. تكلّمنا، قليلاً، في آثار الحرب على الناس. وفي عرض بنات الصدور، حمل إلينا أحد الإخوة دعوة أطلقها المسؤولون عن الخدمة الاجتماعيّة، في فرع الميناء - مركز طرابلس، تحثّنا على دعم بعض عائلات (نحو 20 عائلة) "تقتات حصرًا من صيد السمك" بعد أن مزّقت شباكها "رياحُ" البلد. هي دعوة داخليّة ترجو أعضاء الحركة أن يساهموا في مبلغ زهيد (ألف ليرة، أو ثلاثة آلاف) لخدمة "الإخوة الصغار"، كما يسمّيهم نصّ الدعوة. لفتتني هذه الدعوة كثيرًا، ولا سيّما في هذا الوقت الحرج. فبعض الإخوة، كما الناس جميعًا، عانوا الأمرّين في الفترة الأخيرة. ومنهم، فتيًّا، مَنْ رماه وضع البلد في حزن شديد. ولكنّ قلوبهم بقيت متيقّظة، ترى أوجاع الناس، وترفض أن يغرق أحدٌ في همّه وحده. فشركة الحياة مع المتألّمين، التي لا تميّز بين دين ودين، من مقتضيات الوعي النهضويّ الذي قامت أسسُهُ على إله صُلب، ليوحّد ذاته بمصلوبي الأرض. فأنت، ولا سيّما في الأزمات، شأنك أن تكون واحدًا و"إخوة الربّ الصغار". قلبك إلى قلوبهم. إن جاعوا، تمدّ يدك، لتعينهم. وإن تألّموا، تحنو على جراحاتهم، لتضمدّها. وإن خافوا، تبقى على تعزيات تأتيك من علُ، لتقدر على أن تبيد، بمحبّتك الثابتة، كلّ خوف إن أمكن.
على جانب الاجتماع، كان لي حديث سريع مع أخت متوثّبة في محبّة كنيستها وخدمة أهلها. وبعد انفضاضه، انطلقنا معًا إلى دير القدّيس يعقوب الفارسيّ المقطّع - ددة، لنسلّم على الراهبات، ونتبارك بمجالستهنّ، ولتذهب هي، تاليًا، إلى بيتها في قرية مجاورة. في الطريق، لاحظت أنّ الشوارع مقفرة تقريبًا. أكّدت لي هي أنّنا، هنا، في قلب الخوف. وفي الدير، كانت تصل إلى مسامعنا أصوات القذائف. لم تغب أخبار البلد عن الراهبات. فالمستوحد لا ينقطع عن أخبار العالم، وبخاصّة القاتمة منها، ليحسن رفعها إلى الربّ المنقذ. لم أشعر بأنّ الخوف الطاغي على البلد قد تسرّب إلى داخل الدير. فمن وجّه وجهه نحو الملكوت الآتي، لا يقدر عليه خوف مهما كان إلحاحه قويًّا. الراهب (أو الراهبة) يعلّمك كثيرًا، ولو لم يتكلّم، أو تكلّم قليلاً. وجهه يقول اطمئنانُه أمورًا غالية. وأنت إلى راحته تطمئنّ، لتمشي في إثره ما استطعت.
بعد زيارة الدير، أوصلت الصبيّة إلى حيث أهلُها. الطرقات كانت، أيضًا، خالية من سوى بعضٍ يمارسون رياضة المشي. في قلب الكورة، تريحك أشجار الزيتون المزروعة بوفرة. هنا، الهدوء يفرضه الله الذي أعطى هذه الأرض جمالاً خلاّبًا. حمل شجر الزيتون فكري إلى نوح في السفينة. ذكرت أنّ علامة الله له عن انتهاء الطوفان كانت غصن زيتون. ما هي علامة انتهاء طوفاننا؟
ثمّ انطلقت إلى جبيل، لأشارك في الإكليل. كانت الشمس قد أخذت تغيب. كنيسة جبيل تقع على مينائه. البحر القريب يحضّك على أن تسافر إلى راحته. أنت تحتاج إلى مثل هذا السفر. وعلى الغالب، لا يعوزك سواه. لقد رتّب لك الله، في موقعك، أن تسافر، وتستريح! وعندما دخلت ساحة الكنيسة، رأيت أنّ الناس، الذين لبّوا دعوة العروسين، كانوا كثيرين. ثمّة ناس، في هذا البلد، رغم استمرار وقوف الدهر حزينًا على رتاج أبوابنا، مصرّون على الفرح.