الأب إيليّا متري | Father Elia Mitri

يوم الأحد في تقليد الكنيسة القديم

            يَتّهم السبتيّون، زورًا وتهوّدًا، المسيحيّين بأنّهم يخالفون الشريعة بإهمالهم فريضة "السبت" كما حُدِّدت قديمًا (خروج 20: 8- 11)، لأنّ يوم السبت، كما يقولون: "علامة الله المستمرّة لعهده الأبديّ بينه وبين شعبه" (المعتقدات الأساسيّة، 19). ويعرف مَن اطّلع على فكرهم أنّهم يحرّفون الحقيقة باقتطاعهم آيات تناسب تعاليمهم، إذ يذكرون مثلاً أنّ المسيح قال: "إنّ السبت جُعِلَ للإنسان"، وإنّ "ابن الإنسان هو ربّ السبت"...، ويهملون ما يفضحهم، فلا يذكرون، على سبيل المثال، أنّه قال: "وما جُعِل الإنسانُ للسبت" (مرقس 2: 27 و28)... وتأكيدًا للسبت واستمراريّة معناه ومتطلّباته يقولون إنّ يسوع كان يدخل "المجمع حسب عادته في السبت" (لوقا 4: 16).

            لا يجوز، بدءًا، فيما نتكلّم على يوم الأحد في تقليد الكنيسة، أن نفهم أنّ المسيحيّين أبدلوا يومًا بيوم (السبتَ بالأحد)، كما يقول السبتيّون (أنظر: ألن هوايت، الصراع العظيم، صفحة 58). ذلك بأنّ المسيحيّين يؤمنون بأنّ الله قدّس بتنازله الزمانَ كلّه، وبات كلّ يوم بالنسبة إليهم فرصة جديدة للتوبة واكتشاف محبّة الله. وأمّا تقديسُهم يومَ الأحد - وإهمالُهم "عقيدة السبت" القديمة -، فيعود إلى كونهم أدركوا أنّ الله، في العهد الجديد، صنع فيه (الأحد) "كلّ شيء جديدًا" (يقول القدّيس يوحنّا الذهبيّ الفم، في إحدى عظاته، ما معناه أنّ المسيح تمّم الأحداث الخلاصيّة كلّها يوم الأحد). ولا يخفى أنّ المسيح - المولود في مجتمع يهوديّ - (والرسل بعده) الذي نقض مفاهيم اليهود المتحجّرة (متّى 12: 9- 14)، كان يحافظ على عبادة الأجداد. إلاّ أنّ ذهابه إلى المجمع، في السبت، لم تكن غايته تكريسَ سبتٍ قديم، بل دعوة الناس (اليهود أوّلاً) إلى قبول ملكوت الحرّيّة والمحبّة. ولا يخفى، تاليًا، أنّ المسيحيّين الأوّلين فرض عليهم وعيُهم مشيئةَ الله الجديدة ومتطلّباتها، وتاليًا غباءُ اليهود الذين رفضوا الربّ المتجسّد وخلاصه، والاضطهادات التي عانوها منهم أو بسببهم، أن يميّزوا أنفسهم عن كلّ تهوّد. وأحد أوجه هذا التمايز أنّهم تخلّوا عن بعض الممارسات القديمة التي كانت "ظلاًّ"، ومنها تكريم يوم السبت (أنظر: كولوسّي 2: 16 و17؛ غلاطية 4: 9 و10).

            بيد أنّ انحراف السبتيّين يَزيد عندما يدّعون غياب أيّة "بيّنة كتابيّة" تفيد "أنّ المسيح أو تلاميذه بدلوا يوم العبادة من اليوم السابع"، ويتساءلون باستهزاءٍ: "فكيف جرى إذًا أنّ مسيحيّين عديدين بلغ بهم الأمر إلى قبول يوم الأحد بدلاً منه؟". ويتابعون: "ليس ثمّة من كاتب في القرن الثاني والثالث استَشهد ولو بآية واحدة من الكتاب المقدّس تسمح بحفظ الأحد مكان السبت لا برنابا ولا أغناطيوس ولا يوستينوس ولا ترتليانوس ولا كليمنضس الإسكندريّ ولا أوريجانس..." (إيمان الأدفنتست السبتيّين، صفحة 438 و439). وهذا يقتضي الردّ والإيضاح.

            لا ريب أنّ ثمّة نصوصًا عدّة، في العهد الجديد، تدلّ على أنّ يوم الأحد هو اليوم الذي كان فيه المؤمنون الأوائل يحتفلون بذكرى قيامة الربّ، ويجتمعون، ليأكلوا جسد ابن الإنسان ويشربوا دمه (لوقا 24: 28- 43؛ يوحنّا 20: 19- 26؛ أعمال الرسل 2: 1- 2، 20: 6- 11؛ 1كورنثوس 16: 1- 2؛ رؤيا يوحنّا 1: 9- 11). إنّ هذه الذكرى (ذكرى قيامة الربّ وكلّ التدبير الخلاصيّ) هي، في تراثنا، أساس تقديس يوم الأحد. وذلك بأنّها أعطت المسيحيّين أن يطلّوا - فيه - على فرح اليوم الأخير ("اليوم الثامن"، كما يسمّيه يوحنّا في إنجيله 20: 26)، ويتذوّقوا "الآن وهنا" طعام المائدة التي سيتّكئ حولها المختارون في "ملكوت الآب".

            سنورد أقوال بعض آباء القرون الثلاثة الأولى الذين يدّعي السبتيّون أنّ تعاليمهم حول يوم الأحد لا تستند إلى الكتب المقدّسة، تاركين للقارئ أن يحكم بنفسه:

            كتب القدّيس أغناطيوس الأنطاكيّ (+107) في رسالته إلى أهل مغنيسية: "أولئك الذين عاشوا وفقًا للنظام القديم، واحتضنوا النظام الجديد، لا يحفظون السبت، بل الأحد الذي أشرقت فيه شمس حياتنا بواسطة المخلِّص وموته" (9، 1). ونقرأ في كتاب "الذيذاخي" (راجع: رعيّتي 40، 1998): "اجتمعوا نهار أحد الربّ واكسروا الخبز وقدّموا الشكر لله" (14، 1). وفي رسالة برنابا (دوّنها كاتب مجهول نحو العام 125 ب.م)، نقرأ: "إليكم ما يريد قوله، رؤوس الشهور والسبوت لا أحتملها ولا أقبلها الآن، بل السبت الذي أضعُهُ وأضعُ نهاية الكون وسأضع يومًا ثامنًا بدءًا لعالم جديد. لذلك نعيّد اليومَ الثامنَ بفرحٍ، اليومَ الذي قام فيه المسيحُ من الأموات وظهر وصعد إلى السماء" (15، 8 و9). أمّا يوستينوس الشهيد (+165)، فيصف اجتماع المسيحيّين، بدقّة، في يوم الأحد، بقوله: "في اليوم المدعوّ يوم الشمس (الأحد)، يُقام اجتماع في مكان واحد لجميع الساكنين في المدن والأرياف، وتُقرأ... مذكّرات الرسل وكتب الأنبياء...، (و) يقدَّم خبز وخمر وماء، فيرفع المترئّس، ما استطاع، صلوات وإفخارستيّات، ويجيب الشعب قائلاً: آمين. ثمّ تُوزّع القرابين على المشتركين واحدًا فواحدًا..." (الدفاع الأوّل: 67، 3- 7). ويقول كليمنضس الإسكندريّ (+215): "راحة الروحيّين في يوم الربّ" (مقتطفات من تيودوطس: 63، 1). وترتليانوس (+225): "إنّ للوثنيّين عيدًا واحدًا مرّةً في السنة. أمّا لك، ففي كلّ يوم ثامن" (في الوثنيّة: 14، 7). أمّا أوريجانس (+253) فيستفيض في تفوّق يوم الربّ على سبت اليهود، بقوله: "... أمّا السبت، فهو اليوم السابع. أسأل، إذًا، في أيّ يوم بدأ المنّ يُعطى من السماء. وأُريد أن أقابل بين يوم الربّ عندنا وسبت اليهود. إنّه لواضح من الكتب الإلهيّة أنّ المنّ أُعطي في الأرض، لأوّل مرّة، في يوم الربّ. لأنّه إذا كان قد جُمع، كما يقول الكتاب، في ستّة أيّام متتالية، وانقطع في اليوم السابع الذي هو سبت، فقد كان بدؤه، بغير شكّ، في اليوم الأوّل الذي هو يوم الربّ. فإذا ثبت من الكتب الإلهيّة أنّ الله يُمطر المنّ في يوم الأحد ولم يمطر في السبت، فليفهم اليهود أنّ يوم الربّ عندنا هو أفضل من السبت اليهوديّ، لأنّه قد تبيّن أنّ نعمة الله لم تنزل عليهم من السماء في يوم سبتهم، ولا أتاهم الخبز السماويّ الذي هو كلام الله... أمّا في يوم الربّ عندنا، فالربّ يُمطر دومًا المنّ من السماء" (مواعظ حول سفر الخروج: 7، 5).

            أمّا ادّعاؤهم بأنّ هذا اليوم لم يصل "إلى مركز الكرامة في العالم المسيحيّ"، قبل اهتداء قسطنطين الكبير إلى المسيحيّة في القرن الرابع (هوايت، م.ن.، صفحة 622 و623)، فهو يناقض الحقيقة التي كشفنا مقتضياتها أعلاه. وذلك بأنّ قسطنطين شرّع - مدنيًّا - ما هو مكرّم في العالم المسيحيّ كلّه. إذ أصدر مرسومًا دعا فيه الحكّام والشعب (والجنود) إلى التوقّف عن العمل يوم الأحد (والأيّام التي تحمل اسم المخلّص)، تاركًا "للعاملين في الزراعة" حرّيّة متابعة سعيهم "وفقًا للقانون". وهذا أكّده أفسابيوس القيصريّ (+340)، وزكّته المجامع الكنسيّة. فقد أمر آباء المجمع المسكونيّ الأوّل (المنعقد في العام 325)، المؤمنين بعدم الركوع في أثناء الصلاة "في يوم الربّ" (الأحد)، لأنّه يوم ذكرى قيامة الربّ (قانون 20). كما نهى مجمع اللاذقيّة (القرن الرابع)، في قانونه الـ29، "المسيحيّين" عن التهوّد ("الراحة في يوم السبت")، ودعاهم إلى "أن يشتغلوا في ذلك اليوم، وأن يكرّموا يوم الربّ، ويستريحوا فيه من العمل - إذا استطاعوا - لأنّهم مسيحيّون". وأمّا كلّ مَن خالف هذا الأمر، ففرزه "من المسيح" (أنظر أيضًا: القانون الـ38 لمجمع أورليان المنعقد في العام 538، الذي يدعو المزارعين إلى التوقّف عن عملهم يوم الأحد "حتّى لا يحال دون حضور الشعب إلى الكنيسة").

            لا بدّ من القول، أخيرًا، إنّ اليهوديّة لا تقوم فكرًا في ذاتها وحسب، بل في مَن يقول قولها أيضًا. فلا يشكّ المسيحيّون في ما أُعلن صدقًا وخلاصًا للعالم، أو يبدلوا الحقيقةَ بما لا نفع فيه (أنظر: كولوسّي 2: 8).

شارك!
Exit mobile version