1نوفمبر

يسوع المَلك

            كلام العهد الجديد على "ملكوت الله" هو كلام على حلول الملك معنا وفي ما بيننا. ثمّة مفسّرون، في شرحهم عبارة "توبوا، فقد اقترب ملكوت السموات"، ميّزوا بين معناها كما خرجت من فم يوحنّا المعمدان (متّى 3: 2) ومعناها من فم الربّ يسوع (4: 17). فقالوا، في اللفظ الأوّل، إنّه يفيد الاقتراب، وفي الثاني الحضور. يسوع دعانا إلى أن نتوب، لكوننا بتنا في زمان ملكوته الحاضر أمامنا، الآن، في شخصه.            إذا راجعنا أقوال يسوع بتبصّر، فلن نجده، إلاّ قليلاً، يستعمل لفظة "ملكوت" من دون أن يضيف إليها ما يعرّفها. وهكذا نسمعه يقول: "ملكوت السماوات"، أو "ملكوت الله" أو "ملكوت أبي"، أو "ملكوتي". وهاتان الأخيرتان يستعملهما قليلاً أيضًا. ولهذا الاستعمال سبب وجيه. فيسوع ظهر في زمان كان الناس يتوقون فيه إلى ملك أرضيّ يحرّرهم من ظلم الغرباء، ويقيم سلطان إسرائيل. ثمّة أحداث تدلّ على هذا التوق. وأكثرها سطوعًا حادثتان. أولاهما أنّ إبليس، في تجربته يسوع، استعاد أحلام الناس، الذين كانوا ينتظرون مجيء مسيّا ينقذهم، بعرضه عليه أن يعطيه "ممالك الدنيا ومجدها" (متّى 4: 8- 10). وثانيهما أنّ بعض الذين رأوا آية تكثير الخبز والسمكتين، التي أجراها الربّ، حاولوا اختطافه، ليقيموه ملكًا (يوحنّا 6: 14 و15). ونعرف أنّ يسوع ردّ عرض إبليس بطردِهِ بكلمة الله توًّا، وأنّه، تاليًا، هرب من محاولة الاختطاف، وعاد إلى الجبل وحده. وهذا يدلّنا على أنّه لم يأتِ ملكًا أرضيًّا، بل ليملك في قلوب أحبّائه (لوقا 17: 21).

            لا يعني قولنا "لم يأتِ ملكًا أرضيًّا" أنّ يسوع ربّنا لا يملك في الأرض. فـ"للربّ الأرضُ وكلُّ ما فيها / الدنيا وساكنوها" (مزمور 24: 1). لكنّ هذا، كما أوحينا، لا يمكن أن يفهم إلاّ على قاعدة ارتباطنا بالربّ ارتباطًا محبًّا. وكلّ قاعدة أخرى حلت للناس، في مدى أجيالهم، إنّما أنتجتها بنات أفكارهم، قاعدة لا قيمة واقعيّة لها ولا قرار. الربّ جاء، ليملك على القلوب فحسب. هذا هو الحقّ الذي جهله إبليس وكلّ مَنْ مشوا في ركابه قديمًا، أو يغريهم أن يمشوا اليوم.

            مَنْ يتابعْ خِطَب بعض مَنْ يحسبون أنفسهم قادة العالم اليوم، لا يخفَ عليه شيوع أفكار تخالف الحقّ. فالعالم، اليوم، يضجّ بِمَنْ يوهمون أنفسهم، وَمَنْ يركنون إليهم، بأنّهم مكلّفون، إلهيًّا، أن يقيموا مملكة الله في الأرض. وهذه عجرفة بالية تحركّها أفكار مريضة. فالربّ رفض أن يقام ملكًا أرضيًّا. ومن الغباء أن يخوّل أحدهم نفسه بادّعاء إقامة ما رفضه الربّ. هل هذا الادّعاء هروب من ارتضاء مشيئة الله الذي قرّر أن يكون عرشه في القلوب؟ كلُّ وَهْمٍ، إن كان أربابه يقصدون هذا الهروب أو لا يقصدونه، يعطينا أن نجيب عن سؤالنا بـ:نعم. وذلك بأنّ أحدًا لا يقدر على أن ينسب إلى الله ما لم ينسبه هو إلى نفسه. أنت، إن أردت أن تنفّذ مشيئته، تأتي من فمه فحسب. من أيّ طريق آخر، غير فمه، أنت تأتي من نفسك. وإن كانت نفسك مريضةً، فاعرف أنّ كلّ ما تأتي به إنّما هو مريض!

            يبقى أن نعرف ما المقصود بأنّ القلوب هي عرش الله. والمقصود واحد دائمًا: أن يحكم الله حياتنا وكياننا كلّه، بمعنى أن نخلص له الودّ دائمًا، وأن تكون مشيئته هي مشيئتنا نحن دائمًا. ثمّة ترابط محكم ما بين طاعة مشيئة الله واستعلان ملكوته. وهذا الترابط يظهره الربّ، في الصلاة الربّيّة، بتعليمنا أن نطلب: "ليأتِ ملكوتك، لتكن مشيئتك كما في السماء كذلك على الأرض".

            يوم ولد يسوع، أتى ملوك المشرق، وسجدوا له، وقدّموا له هداياهم (متّى 2: 11). وما من برهان أسطع من أنّ يسوع هو الملك الحقّ كما أن يسجد للملك ملوكُ الأرض. لكنّ هذا يبقى برهانًا غريبًا عن قلوبنا، إن لم نقتدِ بِمَنْ فعلوا، أي إن لم نأتِ، نحن أيضًا، إلى يسوع، ونحنِ له ركبنا ورقابنا، ونقدّمْ له أغلى ما عندنا (حياتنا). فإن فعلنا وأخلصنا له دائمًا، يقيمنا هو، ملكُ الملوك، ملوكًا في ملكوته.

شارك!

جميع الحقوق محفوظة، 2023
Skip to content