30نوفمبر

يسوع المحرّر

            في أوّل إطلالات الربّ خطيبًا، يحملنا الإنجيليّ لوقا إلى مجمع لليهود في الناصرة، ويرينا السيّد يقرأ في كتاب أشعيا حيث يتنبّأ عنه: "روح الربّ عليّ / لأنّه مسحني لأبشّر الفقراء / وأرسلني لأعلن للمأسورين تخلية سبيلهم / وللعميان عودة البصر إليهم / وأفرّج عن المظلومين / وأعلن سنة رضًا عند الربّ" (4: 18). وتعنينا، في هذا القول الإلهيّ، عبارة "تخلية سبيلهم"، أو "الإطلاق"، كما في تعريب آخر. فكيف نفهم معنى هذه العبارة؟ هذا ما سنحاول الإجابة عنه هنا.            أوّل ما يجب أن ننتبه له هو أنّ الحرّيّة، التي جاء الربّ يعلنها ويعطيها، ليست شأنًا سياسيًّا، بل هي معنًى من معاني طبيعة علاقته بأبيه، وتاليًا من معاني حضوره بيننا. فالربّ هو الحرّ، أي هو ابن الله الوحيد، أي ابن "البيت" على نحو كلّيّ وثابت. ولكونه الابن يريدنا أن نشاركه في حياته المحيية. فهو جاء، ليعتقنا من عبوديّة الخطيئة ومرارة الغربة، ويجعلنا "من أبناء وطن القدّيسين، ومن أهل بيت الله" (أفسس 2: 19).

            هذا يضع الاقتباس، المسطّر في رأس هذه السطور، في سياقه الحقيقيّ. فتخلية السبيل إنّما تعني أنّ الربّ جاء، ليعتقنا من كلّ أسر، ويضمّنا إلى بيت أبيه. إذ لا يجوز أن نعتقد أنّ الربّ حرّرنا من ذنوبنا فحسب، بل علينا أن نضمّن اعتقادنا أنّنا بتنا من عائلة الله أيضًا. وهذا يذكّرنا بما جرى في الفردوس قديمًا. فالإنسان الأوّل خرج من معيّة الله بعد أن استعبد نفسه للخطيئة. حَسِبَ أنّه قادر على أن يكون إلهًا من دون الله، فسقط، وخرج. لكنّ الله، الذي لا يتحمّل أن يبقى أولاده بعيدًا منه، حاول كثيرًا أن يعيدنا إليه بألف أسلوب وأسلوب. وكانت محاولته الأخيرة أنّه أرسل ابنه الوحيد، لينقذنا من كلِّ شرٍّ استعبدَنا، ويرجعنا إلى "بيته الأبويّ". وهذا الرجوع يرويه الربّ، ببلاغة لا تشبهها بلاغة، في مثل "الابن الشاطر"، أو كما يسمّيه الأكابر بيننا مثل "الأب الرحيم" (لوقا 15: 11- 32). فالخطيئة تخرجك من بيت أبيك، والربّ يعيدك إليه. وهذه العودة هي، وحدها، معنى الحرّيّة الحقيقيّة.

             إن ابتعدنا عن هذا المعنى، نكون أسرى معاني الأرض. وليست كلّها صحيحة. فإنّنا نعرف أنّ مَنْ ينادون بالحرّيّة، اليوم، يريدها معظمهم على مقتضى حالهم. يريدونها لهم. وينكرون على الآخرين حقّ أن يكونوا هم أحرارًا أيضًا. الحرّيّة، في الدنيا، يسجّلها الكثيرون باسمهم حصرًا. وهذا يخالف ما أراده الله من هبة الحرّيّة. بكلام آخر، المسيحيّ هو مَنْ يعتنق الفضائل كما دلّه على معانيها إلهُهُ. لا يناقشها. لا يؤوّلها. لا يحرّفها. لِمَ؟ للسبب عينه الذي ذكرناه أعلاه، أي لكون المسيح هو، وحده، الحرّ والمحرِّر، أي لكون المعاني المنجّية قائمةً كلّيًّا في وضوح ظهوره. وبهذا المعنى، يجب أن نفهم قوله: "إذا حرّركم الابن، كنتم أحرارًا حقًّا" (يوحنّا 8: 36). فالمسيح هو الحرّ. وبقبولنا دعوته، نكون أحرارًا حقًّا. وإن آمنّا بأنّ المسيح هو الحرّ، وإن كانت الحرّيّة معطًى إلهيًّا، فهذا، بالضرورة، يعني أنّ الربّ لم يمنع حرّيّته عن أحد. ليس من الحرّيّة بشيء أن نحصر عطايا الربّ بنا. وليس من الحرّيّة أن نرى الناس عبيدًا، أو نريدهم عبيدًا، أو نعاملهم وفق ما يضمن بقاءهم عبيدًا. الحرّ، حقًّا، هو مَنْ يعمل، في وقت مقبول وغير مقبول، على أن يتحرّر العالم من شرورٍ شأنُها أن تبقيه في أسر الأرض.

            هذا كلّه يعني أنّ الحرّيّة تفترض إيمانًا بالربّ وبعطاياه المحرّرة. لقد أرانا العهد الجديد معنى الحرّيّة. وهذه الرؤية، التي تتكشّف في شركة الحياة مع الله، تحضّنا على أن نعامل الناس على أساس ما يعمله الله معنا. قاعدةُ سلوكِ البشر سلوكُ الله معهم، أو هذا ما يجب. فأن نعي أنّ الربّ حرّرنا، لهو أن نسعى إلى بثّ روح الحرّيّة في عالم متوهِّم. لا يتكوّن بيت الله من أحد وحده. الخطيئة جعلت الإنسان خارجًا. وهذا هو الفراغ الكلّيّ. أمّا بيت الله، فمشروع الله أن يملأه. وهذا يجب أن يكون مشروعَ مَنْ يؤمنون بأنّ الربّ حرّرهم حقًّا.

            مَنْ يؤمن بأنّ المسيح جعله من أهل بيته الأحرار، لا يكمل إيمانه إن لم يثق بأنّ الربّ مسحه هو أيضًا، ليعلن للمأسورين تخلية سبيلهم.

شارك!

جميع الحقوق محفوظة، 2023
Skip to content