10نوفمبر

وقف الحياة

                في لقاء خاصّ، أراد بعضُ إخوة غيورين على الحقّ أن يتكلّموا في أمر وقف الحياة لله (لا سيّما في الكهنوت). وفيما أخذهم الكلامُ على ما يجري في واقعنا اليوم، هنا وهناك، استعرضوا أسباب هذا الوقف الذي ذكّر بعلوّه انطلاقُ الوعي النهضويّ. ورأى أحدهم أنّ كلّ وقف، عرفناه منذ أن منّ الله علينا بوعي نهضته، أتى به حبُّ أن تبقى النهضة تسود حياتنا أبدًا. وقف الحياة كان، دائمًا، مرتبطًا بحلم أن يعمّ الوعي النهضويّ في كلّ رعيّة وحيّ وزقاق.

                هذا قادنا إلى أن نتأمّل في التغيير المخجل الذي رافق بعض مَنْ أهداهم الوعيُ النهضويُّ قيمةَ أن يوقفوا حياتهم حبًّا وخدمة. وعصفت بنا الأسئلة المحيّرة من غير لسان. قال أحدنا: "ماذا ينفع الوقف (المشار إليه أعلاه) إن لم يبقَ الإنسان يلهج بحبّه الأوّل، ويخدمه بإخلاص ظاهر؟". وتبعه آخر: "هل الالتزام سوى دين؟". وآخر: "أين تكريم الوالدين الذين أهدونا محبّة الله (ويقصد الإخوة المرشدين في التيّار النهضويّ)؟".

                لم تبقَ الأسئلة من دون جواب. وخير جواب، أُطلق، كان أن تسعى جماعة النهضة، اليوم، إلى أن تمدّ اللغة النهضويّة بما ينسجم مع حلمها وانتشاره وثباته. هذا لم يستثنَ منه علمُ أنّ الإنسان قد يصرّ على أن يبقى صندوقًا مقفلاً. فليس من بشريّ أُعطي أن يفحص قلبَ غيرِهِ وكليتَيْه. وعن هذا كلّه جرت بعض مداخلات.

                أوّلاً، في موضوع اللغة، رأى أحدنا أنّ "كلّ تربية صالحة لا بدّ من أن تنشئها اللغة. واللغة النهضويّة، اليوم، يبدو أنّها ليست واحدةً في غير موقع". وتابع حرفيًّا: "يجب أن نعترف بأن ليس كلّ مَنْ دخل التيّار النهضويّ عرفه حقًّا. وعلى ذلك، ترى معظم المواقع تنبت مكرَّسين. وهذا، على فرحنا به، يفترض أن نسأل أنّ الموقع، الذي تعوزه رصانة الفكر النهضويّ، أيّ تكريس ينتج؟ نشكر لله أنّه بات لدينا معهد أنطاكيّ لدراسة اللاهوت. ولكن، هل قضيّة التكريس الكهنوتيّ يعدّها التعلّم في معهد فحسب؟ أليس التزام الحياة الأخويّة معهدًا أيضًا، أو المعهد أبدًا؟".

                لم يبقَ مَنْ أتاح لنا أن نسمعه على مستوى الوصف، بل أعادنا، أيضًا، إلى أنّ الحلّ هو في سعي جديد إلى انتشار اللغة النهضويّة كما خرجت من أفواه مطلقيها. قال أيضًا: "أمور كثيرة تجعلنا نعتقد، اليوم، أنّ علينا أن نركب فرس زمن الانطلاق الأوّل. كيف تنتشر اللغة النهضويّة حيث يجب؟، هذا ما يجب أن يشغلنا. الحركيّون الأوائل اعتمدوا أن يتنقّلوا من مكان إلى آخر. ولا أعتقد أنّ هذا ينفعنا أن يغيّره جيل (أو أن نكتفي ببعض ما يُنشر). إن كنّا نرى سلامنا في وحدة لغتنا، فعلينا أن نبقى في لقاء موصول. هذه مسؤوليّة يجب أن يلتزمها كلّ مَنْ عمّره الله بوعيه. ففي اللقاء غنًى. وفي اللقاء تمتين وحدة. وفي اللقاء سلامنا اليوم وغدًا".

                ثمّ أتى مَنْ أسمعنا أنّ "حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة لم تسعَ يومًا إلى أن تطلب ما لنفسها. وهذا، اليوم وغدًا، يعوزه وعي في داخل الحركة وخارجها. فما يظهر أنّك، إن كنت قادرًا على أن ترعى الأصالة في الداخل، فلن تقدر دائمًا على أن تصدّ مظاهر العداء التي قد تأتيك من بعض خارج مريض". لم يحثّنا محدّثنا على أن تخرج الحركة على نهج ألاّ تطلب شيئًا لنفسها، بل رأى أن تبقى تجرؤ على الصدّ، أيًّا كان مَنْ يتعدّى على جماعة النهضة. قال: "إنّ الذين يعادون تيّارنا اليوم عن سابق إصرار وتصميم، إنّما يتّكلون على أنّ أهله قوم يحبّون السلام". ونبّهنا إلى أنّ "صدّ الخطأ لا يعني انتفاضًا على السلام. صدّ الخطأ هو فعل محبّة تذكّر أنّ المجد لله دائمًا". واستطرد: "أعتقد أنّ كلّ القضيّة تكمن في موئل المجد!". وَصَفَعَنا بقوله: "لا يتصوّرنّ أحد أنّ ثمّة خطيئةً، تجرح الله وسلام كنيسته، أمضى من أن يطلب إنسان مجده الشخصيّ. يجب أن نعرف جميعنا أن ليس في الكنيسة من مطرح لغير مجد الله. مَنِ اتّكاله على محبّتنا للسلام، حقّه علينا أن يبقى يعرف أنّ السلام حُكْمُهُ وحَكَمُهُ أن تسود مشيئة الله في حياة كنيسته كلّها. إن رأينا الخطأ وتعاملنا معه كما لو أنّنا لا نراه، لا نكون جماعة سلام. ليس من فارق ما بين أن تسالم الناس وبين أن تريدهم في استقامة الحياة".

                لم ينتهِ ما سمعناه من دون سؤال أطلقه أحد الحاضرين. قال عارفًا: "ألا تعتقد (توجّه إلى مَنْ سبقه في الحديث) أنّ ثمّة علينا بعض حقّ في العداء الذي يصيبنا هنا وهناك؟".

                تعاقب الإخوة على الجواب. وما قالوه، يمكن اختصاره بالتالي: "أيّ عداء لا يزكّي. القضيّة ليست أنّ ثمّة أخطاء نرتكبها هنا وهناك (وهي ترتكب)، بل أنّ مَنْ يعاديك تراه لا يعنيه أن يساهم في أن يمدّ إليك يد المعونة، إن رآك تحتاج إليها. القضيّة، كلّها كلّها، تكمن في الوعي أنّنا جميعنا مسؤولون بعضنا عن بعض. هل يبرّر الأخ، الذي يحسب نفسه واقفًا، أن يكتفي بمشاهدة مَنْ يحسبه ساقطًا؟ هذه لعبة إبليس. كيف نفهم: "إذا تألّم عضو، تألمّت معه سائر الأعضاء"؟ طبعًا، نحن لا نستطيع أن نغتصب قلب أحد. الناس أحرار في أن يحبّوك أو لا يحبّوك. لكن أيضًا: هل يليق بنا أن يكون هذا سلوكنا في كنيسة الله".

                لم ينتهِ لقاؤنا من دون أن يستقرّ الإخوة في تشديدهم على أهمّيّة انتشار الفكر النهضويّ.

                أشعرني هذا الحديث بأنّ الجماعة تحتاج، دائمًا، إلى طرواة المسيح الذي عيّدنا لميلاده منذ أيّام؟ أن نوقف حياتنا لله هو أن نكون في ميلاد دائم. ميلاد دائم، أي جماعة كلّ مَنْ فيها مسؤول عن أن يبقى، دائمًا، يذكر حبّه الأوّل، ولا سيّما مَنْ تعبوا عليه. هذا ليس استطعاء. هذا حقّ ينقذنا أن يبقى نزيل قلوبنا.

شارك!

جميع الحقوق محفوظة، 2023
Skip to content