22يناير

وقفة أمام الرؤية

في خطبةٍ عنوانُها "الرؤية الحركيّة"، وضعها الأب جورج (خضر) (حاليًّا، مطران جبيل والبترون وما يليهما)، يلفتنا أمران يحكمان سطورها كلّها. أوّلهما قوله "استمرارها (الحركة) في الكنيسة واجب"، وثانيهما "تعهّدها واجب". وهذان الأمران يمهّد لهما الكاتب، تعليلاً، بقوله: "اعتقادنا أنّ الحركة من الروح القدس، وأنّ مكانتها في الكنيسة تحدَّد من هذا المنظار" (أنظر: أنطاكية تتجدّد، صفحة 144- 149). ويعنينا هنا، فيما انقضى على هذه الخطبة ما يزيد على الخمسين سنةً (وُضعت في العام الـ1959)، أن نرى إليها في ما تعنيه لنا اليوم.

نريد أن نعتقد، بدءًا، أنّ صاحب الخطبة وَدَّ أن يقدّم قولاً واحدًا إلى نوعين من الناس. النوع الأوّل هم أعضاء حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة أنفسُهم. والثاني الذين يحيون في الكنيسة من دون أن يكونوا قد انتسبوا جميعًا إلى صفوف الحركة، أكانوا مسؤولين في الجماعة أم مؤمنين "عاديّين". والظاهر أنّ ما دفع الكاتب إلى أن يخطّ سطورًا في "الرؤية الحركيّة" وضعٌ آنيّ يبدو أنّ آثاره لم تنتهِ إلى اليوم.

من الواجب، إذًا، أن يستمرّ التيّار النهضويّ في الكنيسة. وهذا، واجبًا عامًّا، يتطلّب أن يرى الحركيّون أنّه يخصّهم أوّلاً. فالالتزام الحركيّ لا يحتمل أن نرتضيه في مرحلة من مراحل حياتنا (عمر الشباب وما دونه، مثلاً)، بل يفترض أن يغدو حياتنا كلّها، أي أن نبقى على وجود فاعل، مهما كان عمرنا ووضعنا الاجتماعيّ والمهنيّ، وجود اعتدنا أن نسمّيه "عضويّة". كيف يجتمع أناس من غير نوع إلى قرار أن يلتزموا جميعهم نهضة الكنيسة أبدًا؟ هذا، لعمري، أمر لا يمكن أن يفهمه، كما ينبغي، إلاّ مَنْ آمن بأنّ طبيعة الحياة الكنسيّة يحكمها أن تقبل نفسك دائمًا، أيًّا كان موقعك، واحدًا في جماعة الإخوة. وإن كان هذا القرار سهلاً، لا سيّما في مطلع الالتزام، حيث تلمع أمام عينيك بركات المحبّة والفهم بسطوع جديد، إلاّ أنّ استمراره مرهون بوعيك أنّ الجهاد المسيحيّ صعب، إن لم يكن مستحيلاً، من دون تضافر الإخوة. وما يمكننا قوله اليوم، بعد أن غازل عمر الحركة سبعين سنةً، أنّ أبغض تبرير، قد يسمعه أحدنا، هو أنّ الالتزام المسيحيّ أمرٌ ممكنٌ بعيدًا من حياة الجماعة. هذه فضيحة تجرح لا سيّما الوعي النهضويّ الذي ذكّرنا بأنّنا أن نحيا في الكنيسة أمرٌ لا يختزله أن نلتزم صلواتها فحسب، أو أن نعتمد فهمهما أفرادًا مبعثرين، أو أن نحبّ الإخوة من بعيد، بل يفترض شركة مصير، تقول، بواقعيّة ظاهرة، إنّني إليك وإنّك إليَّ في حياة واحدة يسودها ربّنا، له المجد. وهذا، عمليًّا، يعني أن أتّخذك وهواجسك وطموحك، وكلّ ما يتحرّك فيك، إلى قلبي من دون أن أسمح لنفسي بأن يعطّل أخذي إيّاك أيُّ مظهر طارئ قد ينفّرني منك. فأنا، يوم التزمتُ جماعة الإخوة، لا بدّ من أنّني خبرتُ أنّهم احتملوني وضعفاتي كثيرًا. وهذا، كما ينبغي لي أن أعتقد، دَيْنٌ سيتبعني إلى قبري، دَيْنٌ لا يُردّ، دَيْنٌ يحبوني عن أن أخرج على إخوتي في يوم من الأيّام. كلّ مَنْ أعانني على أن أقوى في الحقّ هو أمّي وأبي. وإليه أنا ما دمتُ قادرًا على أن أتحرّك إليه. وقلبي إليه، إن منعني عجزي من أن أسرع الخطى نحوه.

هذا من صميمه أنّ استمرار الحركة واجبًا يحرّكه ما يجب أن نطمح إليه من وحدة دائمة لنا ولكنيستنا الأنطاكيّة في آنٍ. فالحركة، في ما وصلت إليه من امتداد راضٍ، بيّنت أنّ وحدة الجماعة تتطلّب، لزامًا، لقاء الحياة، أو، بكلام لا يختلف، أنّ لقاء الجماعة الحقّ مدلولٌ من مدلولات وحدتها. ولا نحمّل واضع الخطبة ما لا يقصده إن رأينا أنّ هذا بعضُ ما أراده في إصراره على واجب وعي التزامنا دائمًا. فإنّه أراد، ممّا أراد، أن يتكلّم على استمرار وحدة الوجود التي كانت قد اختُبرت في امتداد الجسم النهضويّ في غير أبرشيّة أنطاكيّة مدنًا وقرًى. وإن كانت الوحدة، التي هي دعوة الجماعة الكنسيّة ومصيرها، أمرًا لا يقوم على سوى القول المقرون بالفعل، فيجب، اليوم وغدًا، أن نطالب أنفسَنا بأن نبقى على التزام ما اختبرناه في لقاءاتٍ جمعتنا معًا، لنفكّر معًا، ونطمح معًا، ونحلم معًا، ونصحّح بعضنا بعضًا، ونرغب معًا في أن تمتدّ هذه الخبرة المجدِّدة إلى مواقع تعوزها. فهذا، إرثًا معطَى، لا يحتمل أيّ تساهل يعلّي، مثلاً، بُعْدَ المسافات أو الغرقَ الكلّيّ في مشاغل خاصّة، أيًّا كان نوعُها وإلحاحُها. هل ما نقوله، هنا، يحقّقه، فحسب، أن نلتقي معًا وجهًا بوجه؟ لا، بتاتًا! فعلى أهمّيّة لقاء الوجوه، ما نقوله يفترض أن نُخلص، مجتمعين، أبدًا، لمحبّة ربّنا يسوع المسيح الذي "إذا كان مضيئًا في القلوب، فالإنسان في كلّ شيء بصير".

أمّا واجب تعهّد التيّار النهضويّ، فأساسه الظاهر أنّ "الكنيسة جسم واحد يقوم على التناغم والتآلف بين أعضائه، وليست الروحيّات فيه وقفًا على الإكليروس، والزمنيّات وقفًا على العامّة. وليست الروحيّات من مسؤوليّة الرعاة وحدهم، وإن كانوا أوّل المسؤولين، لأنّ واجب الشهادة المسيحيّة، "في الكلام في التصرّف في المحبّة في الإيمان في الطهارة"، واجب مشترك". إذًا، أساس التعهّد أن يرى لا سيّما مَنْ كُلِّفوا مسؤوليّةً في الجماعة إلى أنّ وجود الجماعة الحركيّة تشرّعه طبيعة الكنيسة، كما أسّسها ربّها. لن ننقل هنا، توسيعًا لِمَا نقلناه، خطوط الخطبة كلّها، (هذا يمكننا أن ننتظر عوضًا منه أن تُقرأ في موضعها)، ولن نطالب أحدًا بما ينتظر ربّنا منه أن يطالب نفسَهُ به، بل يعنينا أن نرى ما تفترضه مسؤوليّتنا الشخصيّة في الدفع إلى دوام هذا التعهّد حيث هو قائم، وإلى قيامه حيث ثمّة ما يعثّره. هذا لا يعني أن نستجدي، في أماكن التعثّر، اعترافًا بوجودٍ قلنا، الآن، إنّه من طبيعة الكنيسة، بل يعني أن نرى مكامن الضعف التي تعترينا، لنبيدها بنور رؤيتنا عينها. وخير ما يجب أن نعلّيه كثيرًا أن نعرف إرثنا النهضويّ الذي يحضّنا على أن نوافق ما بين قوله والعمل. فيجب أن نعترف بأنّ ثمّة مشاكل عديدةً، تضربنا من دون استئذان، سببها أنّ بعضنا لا يُحسن حفظَ إرثِهِ ونقلَهُ، كما يليق بتعب مَنْ تعبوا مِنْ أجل هدينا وقيامنا.

ليس الالتزام الحركيّ تعصّبًا أعمى. فالحركة، منذ نشوئها، "استنكرت التعصّب الأعمى". الالتزامُ وعيٌ، مسؤوليّتُنا أن نُظهره. هل هذا يعني أنّ تعثّر التعهّد، في بعض أماكن عملنا، لا يأتي من أفكار لا تستيغنا وفكرنا؟ بلى، هناك مَنْ لا يستسيغنا وفكرنا. لكنّ هذا لا يسمح لنا بأن نهمل ما يجب أن نكونه دائمًا. ومن دون أن نُسقط قراءةً شخصيّةً على سطور واضحة، يعنينا أن ننتبه إلى أنّ انسياب الأمرين، اللذين قلنا إنّهما يحكمان سطور الخطبة كلّها، يبيّن أنّ واجب استمرار الحركة يأتي قَبْلَ واجب تعهّدها، ولو كنّا لا نقصد أن نفكّ ما بين أمرين لا يُفَكّ بينهما. فإنّ واجب التعهّد، وإن كان ضرورةً من ضرورات سلام الجماعة الكنسيّة وخيرها وازدهارها، يحرّكه أن نعرف أنّ استمرارنا إنّما نحن مسؤولون عنه أوّلاً. فالاستمرار الراضي يستدرّ دوام التعهّد الراضي. هذا لا يحقّقه أن نرجو حدوثه، حيث ينبغي، كيفما كان، على أهمّيّة انتظار الرجاء دائمًا، بل إيماننا بأنّ لنا دورًا ثابتًا في نشر محبّة الله الذي رغبته ثابتة في أن يحبّ في مَنْ يحبّونه. ولا أرى عيبًا في تكرار أنّ خير ما ينبغي لنا أن نطلبه من أنفسنا، في غير موقع نزلنا أو حللنا فيه، أن نجتهد جميعنا في أن نحسن التعبير عمّا سلّمنا إيّاه الإخوة المؤسّسون، التعبير بالقول والفعل. لا يحتمل الجسم النهضويّ أشخاصًا يلتحقون بركب سواهم من دون ارتضاء جدّيّة الوعي. ليست هذه دعوةً إلى الطرد، حاشا!، بل إلى الاستقرار في رعاية بعضنا بعضًا، وبذل كلّ "عتيق وجديد" من أجل قيام الكلّ إلى "قياس قامة ملء المسيح". هذا لا يمنعنا من القول، استطرادًا، إنّ أعلى ما يعيب واقعنا أنّ ثمّة مَنْ لا يؤمنون بسوى أنفسهم. غير أنّ هذا لا يمكننا أن نطلب أن تحمل لنا الغيوم غيث تغييره. دائمًا، يجب أن نطالب أنفسَنا بجدّيّة الالتزام والشهادة. إتمام هذا، أي إتمام هذا فحسب، يؤهّلنا لأن نرجو أن يفتح ربّك القلوب المعاندة، ويرشدها إلى سبيل أن تتعهّد حبّه، لنظهر جميعنا أنّنا نستحقّ دمه الزكيّ الذي بذله مَيْدَى قيامنا ووحدتنا.

ما وضعه الأب السيّد ينفعنا أن نقرأه كما لو أنّه قد كُتب اليوم. ويبقى أن نجتهد في أن نشبه ما يخصّنا، ونخدم، بجهد ظاهر، أن "تجمعنا الحقيقة، ويتعزّى المؤمن بالمؤمن، ويبادله الرأي والخير".

- مجلّة النّور، العدد الأوّل، ٢٠١٠
شارك!

جميع الحقوق محفوظة، 2023
Skip to content