20مايو

وحدة الكلّ

من عيوب زمننا الحاضر أنّ بعض الإخوة أخذوا يردّدون أقوالاً لا علاقة لها بالتربية النهضويّة. وهذه صعوباتها أنّها لا تحرق في موضعها فحسب. فإنّ ما يقال قد يجد له قلوبًا يستقرّ فيها. وإن استقرّ الخطأ في القلب، يغدو "حقيقة" مرهقة. بلى، يجب أن يُقدَّر، دائمًا، توق التائقين إلى ازدياد الفهم فالبرّ. ولكنّ الحقّ فرض علينا أن "نختبر كلّ شيء، ونتمسّك بالحسن" (1تسالونيكي 5: 21).

هذا القول الرسوليّ، الذي يعلّمنا الحكمة، يرسم القاعدة التي عليها يقوم مقتضى كلّ تلقٍّ وكلّ تلقين. وإذا تأمّلنا فيه، لا نقدر، واقعيًّا، على أن نحصر معناه بتجنّب التعاليم المشوّهة التي يتفاخر بها الذين من خارج الجماعة القويمة. فالرسول يوحي أنّه، من الداخل أيضًا، يمكن أن تظهر آفات لا علاقة لها بنقاء الداخل. فكلُّ شيء تعني كلَّ شيء. كيف يحدث أن يثار خطأ من الداخل؟ هناك أسباب عديدة لحدوث ذلك. ويكفي أن نذكر أنّ ما يشتّت الجماعة، أي يجعلها أقوامًا متناحرة، هو نتيجة كلّ سبب. فأنت قد تعتقد أنّ ما تسمعه، من هنا وهناك، هو أهمّ من الجماعة التي نَسَبَكَ الله إليها في معموديّتك. وعليك أن تعرف أنّ كلّ ما يفصلك عن إخوتك هو من التمسّك بما هو غير حسن. لستُ، بهذا، أُعلّي الناس فوق الحقيقة المخلِّصة. لكنّ ما علينا الإقرار به، دائمًا، هو أنّ الحقيقة، التي مات ربّنا من أجلها، تفترض الإخلاص لوحدة جماعته. فقد كُتب أنّ الربّ كان عليه له أن يموت، "ليجمع شمل أبناء الله المشتّتين" (يوحنّا 11: 52). وهذا أسمى ما يجب أن نفطن له في مسرى حياتنا معًا.

دائمًا كانت العبارات، التي تدلّ على "اتّفاق الآباء"، تثيرني في قراءة أعمال المجامع. إنّه الموقف الذي لا يوازيه موقف في تحديد التعليم القويم (قابل مع: أعمال الرسل 15: 25). وهذا، في كلّ حال، هو ما يجب أن يسود حياتنا الكنسيّة. فما يريده الله منّا أن نلتزم ما اتّفقت عليه الجماعة القويمة جيلاً فجيلاً. إذ ليس كلّ ما يقوله الناس، منفردين، يُلزم دائمًا. لا يعني هذا أنّ الشخص، مرشدًا كان أو كاهنًا أو أبًا روحيًّا، لا قيمة لما يقوله لواحد أو لمجموعة. بلى. لكن، إذا قال قول الجماعة كلّها. ليست للآراء الفرديّة قيمة اتّفاق الكلّ. الآراء الفرديّة ضرورة، ولا سيّما في المواضيع الجديدة التي لم تبتّ فيها الكنيسة الجامعة. ويبقى كلّ رأي فرديّ خاضعًا لمعيار القبول أو الرفض.

مِنْ نِعَمِ الله علينا أنّه دلّنا، في أوان موافق، على وعي نهضته. فكانت حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة تعبيرًا حيًّا عن افتقاد الله لنا. وإن تغنّينا بهذا، فلا نقصد تبجّحًا مقيتًا. فأنت ربّما يغرّك التبجّح إن كان ما فيك هو منك! ولكن، إذا وعيت أنّك لست أنت مصدر الخير، فيجب أن يحملك وعيك إلى أن ترفع المجد لله المعطي بسخاء. والحركة، التي لم تقفل أبوابها في وجه أحد، لم تقل، يومًا، إنّ كلّ مَنْ دخلها قادر على كشف الحقّ الذي يعمّر لقاءاتها. حالها أنّها تنتظر أن يحوّل الله إليه كلّ مَنْ ركن إلى إخوة يأخذهم حبّه واستقامة فكره. وهذه عجيبة يمكن انتظارها دائمًا. ليس من باب المبالغة القول إنّنا قد رأينا الربّ، في مدانا الرحب، عن يمين إخوة كثيرين. سمعنا صوته من أفواههم، وخبرنا حبّه في مواقفهم وأعمالهم. وعلى ذلك، لم نشعر، يومًا، بأنّهم يعتقدون أنّ ما يقولونه ويعملونه قادر، بحدّ ذاته، على أن يحول البرّيّة إلى بستان. فوعيهم التامّ أنّ الله هو مَنْ يفعل. يقولون قوله وأياديهم مرفوعة استدرارًا لرحمته، ليجعل، بنعمته، من القول فعلاً. والقول، الذي يصير فعلاً في هذا، قد تتعثّر صيرورته في آخر.

ربّما يكون من القسوة أن نذكر، في هذا السياق، مثل الزارع وتفسيره (متّى 13: 1- 23). ولكنّ لذكره ضرورات. ففي هذا المثل، يرسم الربّ السبيل المنجّي، لندرك الحقّ في كلّ قول وتصرّف. ومن دون أن نستبعد تفاصيله المربّية، يكفي أن نؤكّد أنّ الربّ بيّن فيه المخاطر المحدقة بمن يستسهلون حقّ الكلمة. صعوبة المثل أنّه يكشف حال الكثيرين منّا. صحيح أنّ كلّ ما قاله الربّ هدفه تجديدنا. ولكنّ الصحيح، أيضًا، أنّنا قد نرفض جدّته. من حيث إنّ الربّ لا يضطرّنا إلى طاعته رغمًا من إرادتنا. يعرض علينا كلمته (حبّه، خلاصه) عرضًا. يعرضها، ويساعدنا، إن وافقناه بحرّيّتنا التامّة، على تحقيق متطلّباتها. وإذا أتينا من هذا المثل إلى واقعنا، فيُتعبنا هذا الشبه بينه وبيننا.

واقعُنا مثلٌ! الاستباحة والاختطاف والمزاجيّة والغرق في هموم الحياة، أخطار تصف حالنا بدقّة شديدة. بلى، ينتهي المثل بذكر الأرض الطيّبة. وهذه، فيما نعتقد بوجودها، تبقى دعوتنا دائمًا. وما تنبغي ملاحظته أنّ الربّ حكم أنّ الأرض الطيّبة هي التي تثمر أضعافًا وأضعاف أضعاف. وفي شرحه، يقول عنها: "وأمّا الذي يسمع الكلمة ويفهمها، فيثمر". وهذا يمنعنا من كلّ استنساب. فالمثل واضح: الثمر يرتبط بالسمع والفهم. وما من فهم يحوزه المرء فردًا. الفهم يرتبط ارتباطًا وثيقًا بالاندماج في حياة الكنيسة التي هي حقل الله الواحد. وهذا ما أكّده المثلّث الرحمة الأب ألكسندر (شميمن)، في كتابه الرائع "الإفخارستيا سرّ الملكوت"، بقوله: "صار، لزامًا، على كلّ قراءة شخصيّة للكتاب المقدّس أن تستند إلى قراءة الكنيسة له" (صفحة 115). فإن لم يعِ المؤمن أنّ الله قد جعله عضوًا حيًّا في جماعته، من الصعب كثيرًا أن يكون فهمه صحيحًا. يفهم، أو يعتقد أنّه يفهم. ولكنّ ما يعتقد أنّه يفهمه من المستحيل أن يثمر. الابتعاد عن الجماعة، التي جَعَلَنا اللهُ فيها، يقيمنا في قحط مرير. بمعنى أنّ كلّ من يخال نفسه فوق الكنيسة، أهمّ من انتسابه إليها، أسمى من التوحّد بأعضائها، فهمه وَهْم فهم.

لا أريد أن أظهر كما لو أنّني أمشي على أرض مزروعة ألغامًا! ويهمّني، من أجل خلاصنا جميعًا، أن نبيّن كلّنا، في مواقعنا المختلفة، أنّ هدف كلّ ما نقوله ونفعله إنّما يكمن في ارتباط مَنْ يسمعنا بموقعه. قد يغرينا بعض مَنْ نحسبهم أتقياء. وقد يغريهم أن يحسبوا أنّ انتسابهم إلى بعض هو كلّ ما يريده الله منهم. ولكن، ثمّة في الحياة الكنسيّة أصول. وأصل الأصول أن يكون تعليمنا دفعًا للكلّ إلى الاندماج في الكلّ. ثمّة، في الحياة المسيحيّة، فرق شاسع بين الكامل والناقص. وفي هذا، قال الرسول: "فمتى جاء الكامل، زال الناقص" (1كورنثوس 13: 10). وإذا دقّقنا في مضمون هذا القول، فقد نحسب أنّ لفظة "الناقص" تختصّ بالشعب القديم وركائزه حصرًا. وإن كان هذا فيه وجهًا من الصحّة، إلاّ أنّه لا يختزل الصحّة اختزالاً كلّيًّا. فالصحّة الكلّيّة تكمن في أن نعرف أنّ مشكلة الشعب القديم قائمة في تمييزه نفسه عن الكلّ. لقد جاء "الكامل"، أي الذي يجمع الكلّ في شخصه. وعلى هذا يبنى كلّ تعليم في كنيستنا. فكلّ ما يجعل بعضًا يحسب ذاته مميزًّا عن الكلّ يحاكي الناقص الذي أزاله الكامل في مجيئه. هذا هو أساس كلّ جماعة تريد، بما تقوله وتفعله، أن تنهض إلى الله الحيّ.

ستبقى حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة في خدمة الكلّ وفي وحدة مع الكلّ. هذا، وحده، يميّز مَنْ كان منها حقًّا.

- مجلّة النّور، العدد الثالث، ٢٠٠٧
شارك!

اضف رد

جميع الحقوق محفوظة، 2023
Skip to content