بعد مرور أيّام قليلة على حادثة الكوب، مرض مرضًا مفاجئًا. أصابه داء "النُكَاف". فاضطرّه طبيبه إلى أن يلزم فراشه نحو أربعين يومًا. منعه من أن يتحرّك حتّى في داخل المنزل. فصارت غرفته موطنه. ولكنّ فكره بقي يتحرّك، ويحمله، يوميًّا، إلى الدار.
في أثناء مرضه، لم ينقطع عنه رفقتُهُ الذين لم ينقطع عنهم. وكانت أحاديث الزيارات تأخذ أخبار الدار حيّزًا كبيرًا منها. ضاقت غرفته من كثرة ما روى. ضاقت أو وسعت، يبقى المعنى واحدًا! لا، لم يقلْ كلّ شيء خوفًا من أن يهتك المروءة. لكنّ أشياء كثيرة كانت تخرج من فمه عفوًا. كانت تغافله، وتنطق ذاتها! وفي أوقات فراغه، بقي يقرأ. وهناك، عرف قيمة الوجه كما لم يعرفها قبلاً. وعلى زيارات رفقته، كان يشعر بأنّ غرفته صحراء. "حتّى موسى، في الصحراء، طلب إلى الله أن يمشي وجهه أمامه"! لا أحد يقدر على أن يمشي من دون وجه. لا أحد يستطيع أن يقرأ، أن يفهم، أن يحكي، أن يتقدّم، أن يصل، من دون وجه.
عندما قرأ قصّة خروج بني إسرائيل من أرض مصر، حيّره، كثيرًا، طلب موسى النبيّ. لقد قال الله له: "وجهي يسير أمامك، ويريحك". وأصرّ هو عليه أن يفعل (خروج 33: 14 و15). طَلَبَ الوجه! طَلَبَ أن يرى الوجه! تذكّر القصّة على سريره، واعتقد اعتقادًا راسخًا أنّ هدف ما جرى، في حدث الخروج، هو وجه الله فحسب. الله كانت إرادته أن يقود شعبه إلى وجهه! إنّه هدفٌ لا يحتاج إلى تأكيد. إنّه هدف تامّ. لم يكنْ همّه أن يغيّر معنى الحدث. هذا هو المعنى. وهذا ما فهمه موسى. لو لم يكنْ موسى قد فَهِمَ أنّ هذا هو الهدف، لما أصرّ على أن يرى الوجه الذي "لا يراه الإنسان، ويحيا" (خروج 33: 20). لم يُكتب أنّ موسى رأى وجه الله في البرّيّة. لكنّ ما كتب عن موته يوحي بالهدف الذي اعتقد به. "فمات هناك موسى، عبد الربّ، في أرض موآب، بأمر الربّ. ودفنه في الوادي في أرض موآب، تجاه بيت فغور. ولم يعرف أحد قبره إلى يومنا هذا. وكان موسى ابن مئة وعشرين سنة، حين مات، ولم يكلّ بصره ولم تذهب نضرته" (تثنية الاشتراع 34: 5- 7).
لم يكن له، بعيدًا من شرفة الدار، أن يسأل عن معنى عبارة "لم يكلّ بصره"، ليلقّنه شيخها الجواب. لكنّ زياراته المتكرّرة أعطته أن يفهم أنّها إشارة إلى أنّ موسى سوف يرى الوجه، في جبل التجلّي، في حرمون (متّى 17: 1- 8). "لم يكلّ بصره"، ليرى، ليرى وجه يسوع الحلو!، ليرى الوجه. لم يدخل أحد من الذين خرجوا من مصر أرض الموعد. موسى دخلها وحده، ولكن بعد رقاده بزمان طويل. دخلها في حرمون! تذكّر القصّة عند حافّة النوم، واستسلم لسلطانه.
أربعون يومًا، ما أصعبها! متى تنتهي؟ في ملازمته فراشه، كان يختم صلاته، صباح مساء، بهذا السؤال المؤلم. كانت صلاته سؤالاً، سؤالاً طرحه ألف مرّة وأكثر. كان يعرف أنّ من مقتضيات الصلاة أن يسأل المؤمن كلّ ما ينفعه من الله. وكان يردّد سؤاله بإلحاح، بإلحاح شديد، بإلحاح موصول. يردّده كَمَنْ هربت منه الكلمات الأخرى! كانت له خبرة هذا الهروب. لم ينسَ ما جرى معه، في أوّل زيارة، عندما حاول أن يخاطب الأيقونة في مدخل الدار. لم ينسَ كيف هربت كلماته كلّها منه. هذه المرّة، لم يسمح لها بأن تهرب كلّها. استطاع أن يحتفظ بسؤال! سؤال يرجو جوابًا سريعًا عنه، جوابًا محدّدًا. كان يعرف أنّ هذا الرقم، أربعين، رقم مقدّس في التراث. رقم يدلّ على نهايةٍ ما وبداءة جديدة. انتهاء زمن ودخول في زمن. هو لم يطلب بداءة جديدة، أو زمنًا جديدًا! طلبه محدّد: أن يعود إلى الدار، ليتابع دراسته، ويقصد وجه شيخهم متى تعسّر عليه الفهم، ومتى حلا له! كان يطلب الوجه. كان يطلب أن يرى الوجه الذي يجعله يمشي. لو سمح له طبيبه بالتحرّك، واستطاع أن يتحرّك، لما كان سيره على الأرض هو الدلالة على شفائه. دلالته أن يجاور شيخهم، ليمشي إلى قلبه. هذا هو شفاؤه. هذا هو الشفاء.
بعد أن انتهت أيّامه الأربعون، عاد إلى الدار. أوّل ما فعله أنّه صعد إلى فوق، إلى الشرفة، ودخل عليه. سلّم. وقَبَّل. وقعد تِلْقَاءه. وسمع. ورأى. ونزل. وفي نزوله، مرّ بالموظّفين. كلّهم كانوا ينتظرونه. كانوا يفتقدونه بسؤالهم عنه باستمرار. وزاره بعضهم في بيته. ولكنّهم، هنا، يجعلونه يشعر بأنّه، معافًى، في موقعه الطبيعيّ. ما أصعب المرض! ما أصعب أن تفتقد، مريضًا، الوجوه التي تحييك رؤيتُها الدائمة! قرأ، في مكان ما، أنّ المرض قد يكون فرصة، ليعود الإنسان إلى ذاته، إلى قلبه. ولكنّه لم يكنْ يحتاج إلى مرضه، ليفعل. ففي الدار، أنت، دائمًا، مع ذاتك. في الدار، أنت تكون ذاتك. ثمّ دخل غرفته. كلّ ما فيها على حاله. قعد إلى طاولته، وفتح صفحاته التي تركها، ولم تتركه. وأخذته القراءة من جديد، القراءة التي تطلب الوجه.