"وسأله أحد الوجهاء (أو الرؤساء): أيّها المعلّم الصالح، ماذا أعمل لأرث الحياة الأبديّة؟ فقال له يسوع: لِمَ تدعوني صالحًا؟ لا صالح إلاّ الله وحده. أنت تعرف الوصايا: لا تزنِ، لا تقتل، لا تسرق، لا تشهد بالزور، أكرم أباك وأمّك. فقال: هذا كلّه حفظته منذ صباي! فلمّا سمع يسوع ذلك، قال له: واحدة تنقصك بعد: بع جميع ما تملك ووزّعه على الفقراء، فيكون لك كنز في السموات، وتعال اتبعني. فلمّا سمع ذلك، اغتمّ لأنّه كان غنيًّا جدًّا" (لوقا 18: 18- 23؛ أنظر أيضًا: مرقس 10: 17- 22؛ ومتّى 19: 16- 22).
هذا الحوار، الغنيّ بمضامينه، نقله الإنجيليّون الإزائيّون كلٌّ وفق ترتيبه وأهدافه. والمعروف أنّ غناه استدعى آباء كثيرين إلى الإبحار في تفسيره. فتركوا لنا، في تعليقاتهم المبرورة، ما ينقذنا من انحرافات مضنية، ويزوّد قلوبنا بالحقّ. ومَن تسنّى له أن يقرأ بعض ما قالوه أو كتبوه، لا يخفى عنه أنّ معظمهم (أوريجانس، وهيلاريون أسقف بواتييه، وأغسطينوس، وغيرهم) لم يستحسنوا نيّة هذا الوجيه، ورأوا، مثلاً، في سؤاله إنكارًا لألوهيّة السيّد، وفي ادّعائه حفظ الشريعة استكبارًا، وفي اغتمامه تحقيرًا لتعليم الربّ.
لا نريد، في بحثنا، أن نتجاوز قراءة آبائنا. لكن، لا بدّ من التذكير بأنّ أتقياء اليهود كانوا يربّون أولادهم، منذ نعومة أظفارهم، على حفظ الشريعة (خروج 13: 8- 10؛ تثنية 6: 1- 25؛ 2تيموثاوس 3: 15)، وأنّ هذا الحفظ هو، بمنطق آبائنا أيضًا، دلالة من الدلالات على الصداقة التي تجمع معاشر الكلمة بالله (فلنلاحظ أنّ مرقس الإنجيليّ يؤكّد أنّ السيّد، بعد أن سمع من الرجل أنّه يحفظ الشريعة: "حدّق إليه فأحبّه"). والثابت أنّ هدف الشريعة، وفق تعليم العهد الجديد، هو أن تقود الذين يطيعونها إلى مسيح الله (رومية 10: 4؛ غلاطية 3: 23 و24). وهذا يعني أنّ الشريعة القديمة هي ظرفيّة، وقتيّة، ولا تمكّن، بحدّ ذاتها، مَن يطيعها من نوال الحياة الأبديّة، أو "تبلغه إلى الكمال" (عبرانيّين 7: 18 و19). طبعًا، لا يمكننا القول إنّ هذا الرجل قد أتى إلى السيّد، وطرح عليه سؤاله المحيّر (أو المغرِض، وفق آبائنا)، بدافع من الشريعة التي يقول إنّه يحفظها. لكنّ هذا، بعيدًا من نيّات الرجل، لا يمنعنا من أن نلاحظ أنّ الربّ، بقوله للرجل: "واحدة تنقصك بعد"، قد كشف له، (ولنا)، أنّه هو كلمة الله الأخيرة (عبرانيّين 1: 2)، أو "الرجاء الأفضل الذي نتقرّب به إلى الله"، وأنّه هو نفسه "الإله الحقّ والحياة الأبديّة" (1يوحنّا 5: 20؛ أنظر أيضًا: يوحنّا 17: 3).
لن نعلّق، في هذه السطور، على مضمون الوصايا المذكورة التي تتعلّق كلّها بالقريب، ولن نتبسّط في الكلام على الغنى ومخاطره، على أهمّيّة هذا وذاك. فما نعتقده أنّ كلمة الربّ على ما ينقص هذا الرجل بعدُ تتخطّى، موضوعيًّا، حدود الظرف المبيّن الذي دفعه إلى قولها.
"واحدة تنقصك بعد"، قال الربّ لسائله، ويقول لنا أيضًا. إنّه الجواب الأعلى والدائم الذي يعوزنا أن نسمعه إن كنّا نبتغي حقًّا أن يقبلنا الله في أبده. إذ "ما من حدّ يستطيع أن يوقف حركة الصعود نحو الله" (القدّيس غريغوريوس النيصيّ، حياة موسى، صفحة 117). فابن الله إنّما تنازل وجاء إلينا، لنرتفع نحن إليه، و"نتفوّق، باستمرار، على ذواتنا" (حياة موسى، صفحة 38)، أي على كلّ ما يعيق تقدّمنا في "البرّ وقداسة الحقّ" (أفسس 4: 24). وهذا يظهر، جليًّا، في دعوة الربّ التي تضيء صفحات العهد الجديد: "كونوا أنتم كاملين، كما أنّ أباكم السماويّ كامل" (متّى 5: 48؛ أنظر أيضًا قول الربّ في رواية متّى المقابلة الذي يذكر أنّ الوجيه هو مَن سأل الربّ: "ماذا ينقصني؟"، وأنّ الربّ أجابه "إذا أردت أن تكون كاملاً...").
تعنينا هذه العبارة (واحدة تنقصك بعد). فالحوارات، أو النصوص الإنجيليّة، هدفها تعليمنا، لنحسن أن نحيا بفهم. فإذا رأينا، مع آبائنا، أنّ الرجل مخالف، لا يمكننا أن ننهي قراءتنا على أساس نبذه هو وإدانته هو. فالله يريد لنا، في ركوننا إلى "كلمته الصالحة"، أن نحسن المنفعة. وهذا يفترض، لزامًا، أن يفكّر كلّ واحد منّا، بواقعيّة، في وضعه الشخصيّ. فالكتب المقدّسة وُضعت من أجل خلاصنا. وإذا قال الربّ للرجل: "واحدة تنقصك بعد"، فقولته لا يحدّها زمان ومكان، وهي لا تخصّ مَن قيلت له أوّلاً حصرًا، بل تخصّنا نحن أيضًا، أي تخصّ كلّ واحد منّا. فنحن كثيرًا ما نشعر بأنّ كلمة الله صعبة، أو غير منطقيّة؟! لا نريد، بهذا، أن نوحي بأنّ ما يقوله الربّ يستحيل أن ينفّذ كلّه بشريًّا، ولو أنّنا لا نجهل أنّ هذا ما يردّده بعض الناس اليوم. فالربّ لم يقل ما لا يقدر على أن ينفّذه بشر. لكنّنا نحن، في أحيان كثيرة، نبرّر، وندور، ونفاضل، ونستنسب، ولا نواجه المطلوب منّا بصدق وجدّيّة. وربّما بعضنا يحسب أنّ همّ الله، في ما قاله ويقوله، أن نكون في فشل دائم! نراوغ، ونخطئ، ونهرب، ويضع بعضنا الحقّ على الله. لقد اغتمّ الرجل، صحيح. واغتمامه محزن ومخجل ومستقبَح. ولكن، هل يمكننا أن نستند إلى فشله، لنبرّر كلّ فشل يعترينا؟ لست بقائل إنّ الرجل، باغتمامه (إذا أبعدنا من الاغتمام معنى الاحتقار المذكور)، أفضل من كثيرين يتجاوزون مشيئة الله من دون أن يشعروا بأيّ أسف، أو وخز ضمير. لكن، ألا يجوز القول إنّ مَن يعترف للربّ بأنّه لا يريد أن ينفّذ ما يطلبه منه، أشرف بكثير ممَّن يقول له إنّ ما يطلبه يستحيل قبوله! وألا يجوز القول، تاليًا، إنّ مَن يحزن على فشله، أفضل بكثير ممَّن تجفّ به بواعث نشاطه باعتقاده أنّ الربّ يضع العصي في الدواليب! ليس معنى هذا أنّ الفشل والتبرير والحزن الذي لا يؤدّي إلى التغيير الإيجابيّ، أمور ممدوحة. فكلّ فشل مخزٍ، وكلّ حزن سلبيّ مخزٍ، ولا يمكن تبريرهما.
غير أنّ الحوار، إن كنّا نطلب الحياة الأبديّة حقًّا، لا يتركنا من دون حلّ يهدينا سواء السبيل. لقد قال الربّ لهذا الرجل ما ينقصه، وهو يريد أن يقول لنا جميعًا ما ينقصنا. وما ينقص الرجل لا يحدّه أن يوزّع ممتلكاته على الفقراء. فهذا، الذي "لا يكفي" (المطران جورج (خضر)، رعيّتي، الأحد 3 نيسان 2005)، لم يختم الربّ به قوله له (ولنا)، بل أن يتبعه أيضًا برضاه (قال له: "بع جميع ما تملك... وتعال اتبعني"). هذه الدعوة، التي وجّهها الربّ إلى تلاميذه الأوّلين، تتضمّن الحلّ، أو هي الحلّ. فاتبعني تعني أريدك أن تكون معي، وأن تشاركني في مصيري (أنظر: مجلّة النور، العام الـ2005، العدد الثالث، صفحة 157- 159). ومَن تكن معه، لا يتركك تتخبّط في مصاعبك وحدك. يعينك، ويأخذ عنك ما يخال لك أنّه صعب، أو مستحيل. من مشاكل هذا الرجل الوجيه، أنّه لم يقل ما قاله رجل آخر طلب منه الربّ أن يؤمن بقدرته: "آمنت، فشدّد إيماني الضعيف!" (مرقس 9: 24). لو أنّه قال له هذا، لما كان لقاؤه به انتهى بهذه الطريقة المأساويّة التي قرأناها. فالربّ، إن تبعناه بصدق، نتعلّم منه كلّ شيء. ولا نتعلّم فقط، بل نلمس عونه في كلّ ما يطلبه أيضًا. فأن نتبعه، فرصتنا لنختبر مساعدته المنجّية. هذا، في تراثنا، هو قاعدة طاعة الله. فالطاعة، التي هي مجالٌ لعمل الله، ليست فضيلة ننفّذها بقدرتنا الذاتيّة فقط، بل، دائمًا، بعون ذاك الذي "نكتسب منه كلّ ما يسعنا استيعابه"، ليكون "خيرنا أوفى"، وتكمل "طبيعتنا البشريّة" (حياة موسى، صفحة 20 و21). وهذا نجد ما يوافقه في حوار يتبع هذا الحوار عينه. إذ سأل الربَّ الذين سمعوه يتكلّم على صعوبة الأغنياء دخول ملكوت الله: "فمَن يقدر على أن يخلص؟"، فأجابهم: "ما يعجز الناس، فإنّ الله عليه قدير" (لوقا 18: 26 و27). فالله نفسه هو عون الذين يبتغون طاعة مشيئته. الله يطلب منّا ما يجب أن ننفّذه، وينبري هو نفسه، ليساعدنا على تحقيق ما يطلبه.
هذا كلّه، إن قبلناه، يقيمنا في دوام المقرّين بضعفهم وحاجتهم إلى الله. مَن يشعر بأنّه قادر على أن يحيا من دون الله، يوهم نفسه بكلّ خدعة واهية. ومَن يشعر بأنّه بلغ كمالاً، في الأرض، أيضًا يتوهّم. فالعلاقة مع الله، كما مرّ، علاقة تصاعديّة لا يقطعها، أو يوقفها، حدّ في الأرض. فلنذكر سلّم يعقوب "المنتصب على الأرض، ورأسه يلامس السماء" (تكوين 28: 10- 17، وقابل مع: يوحنّا 1: 51). وهذا فُهم، ولا سيّما في التراث النسكيّ، أنّ كلّ درجة من درجات الصعود يليها درجة، وفي نهاية الدرجات ينتظرنا الربّ الذي يرافقنا في كلّ درجة، ويريدنا ألاّ نهمل وعينا حاجتنا الدائمة إليه. هذا ما يؤكّده القدّيس يوحنّا السلّميّ، بقوله: "وإن كنتَ قد صعدتَ سلّم الفضائل كلّها، فَصَلِّ من أجل غفران خطاياك" (سلّم الفضائل 28: 13). الصعود يمنعنا منعًا باتًّا من أن نظنّ أنّنا قد وصلنا. فـ"الجهاد المعروض علينا" (عبرانيّين 12: 1) هو "جهاد موصول لا ينتهي إلاّ ساعة الاحتضار" (المطران جورج (خضر)، جريدة النهار، السبت 2 نيسان 2005). أن نظنّ أنّنا وصلنا، أمر يهدم حصننا وما حصلنا عليه من نعم منقذة. أن نظنّ أنّنا وصلنا، يعني أنّنا لم نعرف الله حقًّا، ولم نختبر قوّته (فيلبّي 3: 10- 14). وأن نظنّ أنّنا وصلنا، نوع من أنواع الوثنيّة التي جاء الربّ وقوّضها. والوثنيّة قد تنبعث في هذا الشعور المَرَضيّ الذي يجعلنا نحسب، رغم النكبات التي تعترينا، أنّنا راضون الله، أو كاملون من دونه. الوثنيّة نغازلها، ونوقظها، إذا حلت لنا أصنام بدلاً من الله، أي أنفسنا وشهواتنا، وفضّلنا الموت على الحياة. والله حيّ. ولقد كشف نفسه كلّيًّا في ابنه الذي جاء، "لتكون الحياة للناس وتفيض فيهم" (يوحنّا 10: 10).
هذه العبارة المنقذة، التي هي قلب هذا الحوار الغنيّ، يجب أن نضعها ذخيرة في قلوبنا إن كنّا حقًّا نؤمن بأنّ الربّ جاء إلينا، لنأتي إليه، ونكمل بحبّه وطاعته. فلنسرع إلى الإله الكثير صلاحه، ونطلب إليه دائمًا أن يقول لنا ما ينقصنا بعد. ولا نخجل من أن نسأله نحن عمّا ينقصنا. ولا نبطئ، أو نتلكّأ، في الطاعة، ولا نستصعب أمرًا مهما بدا صعبًا. فالربّ معنا، دائمًا، ليبيد الصعوبات، ويقودنا إليه، ونكتمل، ونفرح، ويدوم فرحنا.