19مايو

’هذا العالم لا يكفي’

هو عنوان كتاب جديد للمطران جورج (خضر) راعي أبرشيّة جبيل والبترون وما يليهما للروم الأرثوذكس (جبل لبنان). والكتاب، الذي صدر عن دار النهار للنشر- شباط 2006، يضمّ مجموعة حوارات أجراها مع سيادته، ببراعة ظاهرة، الكاتب والصحافيّ سمير فرحات، أيّام الثلاثاء، "على مدى أشهر"، كما يقول المحاور في مقدّمته.

تمسك الكتاب ليل التاسع من آذار مزدانًا بتوقيع صاحبه. ثمّ تهرول إلى منزلك، وتدخل غرفتك، بعد أن تسلّم بسرعة على أهل بيتك، وتفتحه، وتأخذك قراءته. ولا تشعر بمخالفة إن أجلّت، قليلاً، قرارك أن تحصر نفسك بقراءة الكتاب المقدّس في الصوم الذي يحييك بانتظار الفصح. فالكتاب، الذي وقت صدوره فرض ذاته عليك، هو نفحات من ذاك. أو قلْ إنّه يساعدك على أن يزداد حبّك لكتاب الله متى عدتَ إليه. فأنت تفضّل أن تحاول، فيما تقرأ، أن تفهم "كلّ كلمة خرجت من فم الله". وخضر، الذي يعتبر نفسه "تلميذًا للكتاب المقدّس" (صفحة 41)، هو أستاذ الشرح الأنجع والأسمى.

منذ السطر الأوّل، يلامس الكتاب قلبك. فأنت، قارئًا، لا تستطيع أن تغفل العبارة التي اختيرت عنوانًا له، ولا أن تتجاوز تأثّر المقدّم بها. وهذه العبارة-العنوان ليست فكرة جميلة لا علاقة لها بمضمون الكتاب، أو قناعة صاحبه. بل إنّما هي شهادة صارخة تتطلّب عمرك. وقد لا تقدر على بوحها بالصفاء الصادق الذي التقطه مسجّلها. فقبل أن تقرأ، إذًا، يستوقفك العنوان. ويهزّك بعنف. وتجد نفسك صغيرًا أمام نفسك، وتسأل: هل أنت، حقًّا، تؤمن بأنّ هذا العالم، على ما فيه من خير، لا يكفي؟ أي هل أنت، فعلاً، تنتظر، بشغف قلب، ذلك اليوم الذي سيكون فيه "الله الكلّ في الكلّ" (1كورنثوس 15: 28)؟

نادرة هي الكتب التي تتركها، ولا تتركك. من هذه الكتب، هذا الكتاب الجديد. تقرأ، ولا تستطيع أن تنحاز إلى أيّ باب من أبوابه، أو باباته. وتذكر سؤالاً طرحه عليك أحد معارفك: "هل أقنعتك مقالة المطران جورج الأخيرة في جريدة النهار؟". وتعيد على نفسك جوابك عينه: "إنّه يقنعني قبل أن أقرأه". فأنت شأنك، إن كنت تتوخّى الاستقامة قولاً ومسلكًا، أن تتكوّن، بلا نيّة مجادلة أو تذاكٍ، من المحبّة التي تخرج من فمه، أو تلتقطها عيناك.

من يعرف المطران جورج كاتبًا، أو معلّمًا، أو رفيق جلسات، لا يمكن أن يفوته أنّ أجوبته عن الأسئلة، التي طرحت عليه، بأناقة لغتها وحلاوة اصطفافها وعمق مضامينها، إنّما هي هو. فالرجل، الذي وقف نفسه ليدرس تراث كنيسته (صفحة 16)، همّه الوحيد أن يشهد، بأجلى بيان، لله الذي بيّن محبّته لنا، بأجلى بيان، بموت وحيده. وما يجب أن تذكره، وتعاهد قلبك على ترداده دائمًا، أنّ المطران جورج هو صاحب الفضل الأوّل في مصالحة الله وفكره في الربع الثاني من القرن المنصرم، أي أنّ منه، تقريبًا وحده، انساب حبر الله، في تاريخنا الحديث، على قلوب راضية، ليكتب عليها قصّة "حبّه الجنونيّ".

تقرأ، ثمّ تقرأ، ولا تريد أن تتوقّف. يهاجمك ثقل جفنيك، فتنفض النعاس عنك. فأنت لا تريد أن تنتهي قبل أن تنتهي. الليل، كما العالم، لا يكفي. فتستعير نهارك، لتكمل. توقف نفسك على القراءة. أجل، يجب أن تتعمّق بتاريخ من تأخذك رقّة قلبه، وفكره الجريء، وحبّه للكلمة وأهله أنّى حلّوا أو نزلوا. وأجل، أنت قد تعرف بعضًا ممّا قرأت. ولكنّ الجديد الدائم أنّ الكتاب، أو صاحبه، يحثّك، كعادته، على أن تكون أنت جديدًا. فمن عجنته الكلمة حتّى باتها، يحضّك على أن تعرّي عقلك، لتكتسي ما ينقله إليك. أليس هو القائل في غير مناسبة: "إذا صرتم إنجيلاً، مزّقوا صفحات إنجيلكم"؟ والعارف لا يفوته أنّ قوله هذا ليس فيه أيّ انتقاص لكلمة الله، بل إنّما يرسم هدفها السامي. فالكلمة شأنها الدائم "أن تصير بشرًا".

لماذا هذا الكتاب فريد؟ ببساطة، لأنّ كلّ ما يقوله صاحبه، أو يكتبه، فريد. وكيف إذا كان الكتاب، الذي صدر حديثًا، له هذا الطابع العفويّ الذي يدلّ على أمانة صاحبه وانسجامه الفكريّ وجعبته التي تعجّ بالكثير. وأذكر أنّ أحد أترابنا، في مطلع انضوائنا إلى حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة، كان يقول لنا: إذا أردتم أن تُحَلّوا قلوبكم فأفواهكم، قبل أيٍّ من اجتماعاتكم، اقرأوا مقطعًا من كتاب "لو حكيت مسرى الطفولة". فنحن، في حينه، لم نكن جميعنا نملك كتبه الأخرى التي كان بعضها قد نفد، وبعضها الآخر لمّا يُجمع. واليوم، بالإضافة إلى ما صدر له، يمكن أن يقال إنّ المطران جورج، بكلّ طراوته ورصانته وحكمته، بين يديك. فخذه، وَكُلْهُ، فيحلو جوفك.

ليس المجال أن أعدّد عنوانين فصول الكتاب العشرين، أو أن أقدّم بحثًا علميًّا فيها. يكفي أن يتيقّن قرّاء هذه السطور أنّ هذا الكتاب حاجة ضروريّة لهم، فيخرجوا إلى أماكن توزيعه، ليمتلكوه، ويقرأوه. فمن يفعل، فستجعله فعلته يزداد تعرّفًا إلى قلبه، ليردّد مع صاحبه، بثقة كلّيّة، أنّ "هذا العالم لا يكفي".

شارك!

اضف رد

جميع الحقوق محفوظة، 2023
Skip to content