الأب إيليّا متري | Father Elia Mitri

نتنائيل الرسول (برثلماوس)

            لا يورد الإزائيّون اسم نتنائيل الذي يتفرّد يوحنّا الإنجيليّ بذكره. ورود اسم برتلماوس (نعيّد له في 11 حزيران)، في قائمة الرسل الاثني عشر بعد فيلبّس عندهم (متّى 10: 3؛ مرقس 3: 18؛ لوقا 6: 14)، الذي يخبر يوحنّا أنّه هو الذي دعا نتنائيل (1: 45)، جعلنا، تراثيًّا، نعتقد أنّ الاسمين هما لشخص واحد.

            أمّا يوحنّا، فلم يكتفِ بذكر دعوة نتنائيل (1: 45- 51)، بل أضاف إلى هذا الذكر، المنسوج بجاذبيّة معهودة، أنّه كان واحدًا من التلاميذ السبعة الذين تراءى لهم الربّ الحيّ على بحيرة طبريّة (21: 1 و2).

            لنبدأ من خبر دعوته. كان فيلبّس قد التحق بيسوع. دعاه، وَقَبِلَ. هذا لقي صديقه نتنائيل، وقال له: "الذي كتبَ في شأنه موسى وذكره الأنبياء، وجدناه، هو يسوع ابن يوسف من الناصرة". فأبدى نتنائيل ارتيابًا بما سمعه. قال: "أَمِنَ الناصرة (تللك القرية الحقيرة التي لم تذكرها التوراة) يمكن أن يخرج شيء صالح؟". ولكنّه، إثر سماعه صديقه يتفوّه بعبارة يسوع: "هلمّ فانظر" (1: 39)، تجاوز العثرة التي شكّلت ارتيابه. هنا، قَبْلَ أن يرى نتنائيل يسوع وجهًا بوجه، تبدو كلمة الربّ لها اقتدار عليه! هذا يكفي، لنرى في نتنائيل مطواعيّةً، هي شأن كلّ تلميذ. كانت كلمة يسوع دفعًا إلى أن يحمل نتنائيل نفسه إليه.

            كان يسوع ينتظر ثمار الكلمة! أين؟ لا يذكر الإنجيليّ. ولكنّنا يمكننا أن نعرف أنّ فيلبّس خَبِرَ الإقامة مع الربّ أيضًا (يوحنّا 1: 39). هذا موطن كلّ تلميذ. ومن مكانه، رأى يسوع نتنائيل آتيًا نحوه، فقال فيه (لِمْن حوله): "هذا إسرائيل خالص لا غشّ فيه". سمع نتنائيل ما قيل فيه، فقال: "من أين تعرفني؟". هل يمكن أن نرى، في سؤال نتنائيل، أنّ فيلبّس صديقه أخبر المعلّم عنه قَبْلاً؟ ليس من أيّ إشارة إلى ذلك. هل رأى نتنائيل أنّ الربّ يجذبه بامتداحه إيّاه، ليلتحق به؟ هذا لا يمكن أن يُنسب إلى الربّ! كلّ ما يمكن قوله أنّ كلام يسوع أثّر في نتنائيل، فزاد من اقترابه نحوه. بات، الآن، أمام المعلّم وحده. هذا مصير قبول كلّ دعوة: أن نقف أمام يسوع وحدنا، لنراه، ونرى ماذا يريد منّا. كان نتنائيل قد طرح على صديقه سؤالاً. وفي أوّل إطلالة له أمام الربّ، بادره بسؤال أيضًا. وفي كلا الحالين، بدا رجلاً لا يقبل أن تمرّ أمامه أيّ كلمة من دون أن يستوقفها، ويستفسرها. هذا حال العلماء الذين يريدون أن يزدادوا علمًا! وهذا، في ما يتعلّق بنتنائيل، يعني أن يزداد طاعةً. فـ"إسرائليّ خالص لا غشّ فيه"، تعني أنّ ما يعرفه عن الحقّ، القائم في الكتب، يحيا به. هل أتى إلى يسوع يمشي بتؤدة؟ وإن كان ما نقرأه لا يؤهّلنا لأن نجيب: نعم أو لا، إلاّ أنّنا يمكننا أن نلاحظ أنّ يسوع، بكلمات قليلة قالها له، جعله يسرع في اقترابه نحوه.

            كلّ هذا حرّكه أنّ فيلبّس قال لصديقه: وجدنا المسيح. وجدنا، في صيغة الجمع، لا تشمل، إلى الآن، نتنائيل. وجدنا، أراد بها الأشخاص الذين قبلوا دعوة يسوع أوّلاً. قوّة الشهادة أنّها جماعيّة. كيف اكتشف مَنْ تبعوا يسوع، أوّلاً، أنّه المسيح؟ ثمّة جوابان تظهرهما أخبار الدعوات الأولى: شهادة المعمدان أنّ يسوع هو "حمل الله"، والإقامة مع المعلّم. هذان لمّا يكن نتنائيل قد علم بهما. هل وصلا إليه سرّيًّا؟

            اقترب، إذًا. وتابع يسوع إدهاشه برّده على سؤاله: "قَبْلَ أن يدعوك فيلبّس وأنت تحت التينة، رأيتك". ماذا فهم نتنائيل، حتّى أجابَ يسوع: "رابّي، أنت ابن الله، أنت ملك إسرائيل"؟ فهم أنّ يسوع يعرف سرّه. وهذا شأن الله وحده. أيّ سرّ يمكن أن نستخلصه من كلمات يسوع؟ المرجّح سرّ التزام نتنائيل قراءة الكتب القديمة، الأمر الذي كان علماء اليهود يفعلونه تحت شجرة التين. فهم أنّ الربّ يعرف أنّ مَنْ أمامه قد انطبع على أن يبحث، في الكتب، عمّا يختصّ بمجيء المسيّا، وفهم ما قاله له على أنّه يعني أنّ ما تبحث عنه قد تمّ (فيَّ). وصادق نتنائيل بأنّ مَنْ أمامه هو ابن الله وملك إسرائيل، أي الآتي، ليخلّص العالم. قال له صديقه فيلبّس إنّنا وجدنا "ابن يوسف"، ووجد هو فيه ابن الله! استقبل يسوع ما سمعه اعتراف إيمان. فأجابه: "ألِأنّي قلت لك إنّي رأيتك تحت التينة آمنت؟ سترى أعظم من هذا". وقال له: "الحقّ الحقّ أقول لكم: سترون السماء منفتحةً، وملائكة الله صاعدين نازلين على ابن الإنسان". ماذا أراد في هذا الجواب؟ أمرين. الأوّل أن يؤكّد، منذ البدء، أنّ الإيمان يفوق العيان قيمة. والثاني يعيدنا إلى ما قاله عنه قَبْلاً، أي إسرائيليّ. فإسرائيل هو يعقوب الذي رأى، في حُلم، سلّمًا تؤدّي إلى السماء (28: 10- 17). وهذا، منذ الآن، سيُرى، واقعًا دائمًا، في يسوع "ابن الإنسان" الذي يربط الأرض بالسماء، ويُصعد إليها.

            ذكرُ نثنائيل، مرّةً ثانيةً، يتمّ، في آخر إنجيل يوحنّا، بشكل خاطف. خاطف إنّما معبّر. بأيّ معنى؟ بمعنى أنّه يذكّرنا بما جرى أوّلاً، أي بأنّه علق بشباك المسيح أبديًّا، وبأنّ ما سمعه هو من فم الربّ قد تحقّق كلّه. فيسوع، في موته وقيامته، كشف أنّه ابن الله الآتي، ليملك على أحبّائه. هل كاتب الإنجيل، بذكر نتنائيل في مطلع إنجيله وختمه، يريد، من كلّ مَنْ له مع الكلمة علاقة ودّ، أن يرى أنّ يسوع هو "ابن الإنسان" الذي حقّق الكتب، لنثبت فيه؟ نتنائيل إيقونة بليغة تحكي قصّة إله كان كلّ التاريخ إعدادًا له.

            بدأت قصّة نتنائيل يوم أتى إليه صديقه بخبر جديد. هل أراد يوحنّا، بهذه القصّة، أن يعرّي كلّ صداقة جوفاء ليس لها ما تبلّغه؟ لنقل إيجابيًّا: بل أن يرسم سبيل الصداقة التي لا تكون حقًّا إن لم تقد إلى يسوع. نجح يوحنّا، أو نجح فيلبّس. وكان نثنائيل ثمرة نجاح صداقة تبحث عَمَّنْ يتمثّل بها!

شارك!
Exit mobile version