19أغسطس

مُنى

لو لم أعرف مُنى، لَكان عليَّ أن أفتّش عن مُنى.

​- "من أين أنتِ؟". ​ - "لا أعرف"!

​ثمّ تستدرك: ​- "أعرف. لكنّني لا أريدك أن تعرف أمرًا لا يقدّم أو يؤخّر في كوني، أنا نفسي، الآن، أمامك". ​ - "هل اسمك الحقيقيّ هو مُنى؟". ​- "مُنى، أجل، مُنى. ما بالك تسألني كما لو أنّك لا تعرف؟!". ​ - "قيل لي إنّ اسمك ليس اسمك"! ​- "إذًا، صدّق الذين قالوا"!

​هذا نموذج حوار يمكنني أن أجزم أنّ كلّ مَن عرف مُنى أجراه معها إمّا هو ذاته أو بتعديل طفيف. فمُنى امرأة غريبة تستدرجك إلى أن تقتحم إبهامًا، تراه يلفّها، بأسئلة لا تعرف مصيرها. تسأل. تجرّب حظّك. ويبقى، في كلّ حال، ما تطرحه من دون جواب يقنعك. الإبهام هو مُنى شخصيًّا!

​بعد هذا، إن قلتُ إنّ كلّ مَن في البلدة، التي تقيم فيها مُنى، يعرفونها، لا أرتجل قولي. ويعرفها، عن قرب لا يشبهه أيّ قرب، كلّ مَن له دخلٌ في زادها وثمنه. وثمنه دعاء طيّب تتمتمه بسرعة. وتحفظ هي منهم مَن تحفظ، وتنسى مَن تنسى. لِمَ تبيّن أنّها تعرف هذا؟ أنت لا تعرف. ولِمَ تنسى ذاك؟ لا تعرف أيضًا. لكنّ ما تعرفه أنت أنّها توزّع الأدعية على الكلّ. متى تُظهر لك اهتمامًا؟ لا تعرف. ومتى تتجاهلك؟ أيضًا لا تعرف. لكنّ ما تعرفه أنت أنّها، في كلا الحالين، قريبة بعيدة. يا لَهذا الإبهام!

​كانت مُنى تقيم في غرفة، تقع في أسفل بناء مهجور، غضّ أصحابها طرفهم عن نزولها فيها. استقبلوها صدقةً. الناس، مَن يعرفها منهم ومَن لا يعرفها، تعوّدوا أن يسمّوا البناء باسمها. والمفارقة أنّ أحدًا لم يدخل غرفتها مرّةً. كانت غرفتها سرًّا من أسرارها. حتّى مَن تمتّعت بِصَدَقَتِهم، كانوا، متى أتوها، ينادونها من خارج. وتخرج هي إليهم، عبر فناء الدار، تأخذ عطيّتهم إنّما من دون أن تدعو أيًّا منهم إلى الدخول. كلّها إبهام! كلّها، باستثناء أمر واحد: علاقتها بمساكين المنطقة! كانت مُنى تعرفهم كلّهم. وتعرف، قَبْلَ الآخرين عمومًا، أيّ حاجة طارئة تعصف بأحدهم، وتنقله بدقّة. كانت، فقيرةً، رسولة فقراء مزروعين هنا وهناك. كيف كانت أخبارهم تصل إليها أوّلاً؟ لا أحد يعرف!

​- "أريد أن أخبرك بأنّ (فلانًا) مريض". ​ - "مريض؟!". ​ - "أجل، مريض". ​- "كيف عرفتِ أنّه مريض؟". ​- "كلّ الناس يعرفون أنّه مريض"! ​ - "كلّ الناس؟! لم أسمع أنّه مريض!". ​ - "أنت لم تسمع. لكنّه مريض".

​أمّا فلان، فيكون مريضًا فعلاً. وتكون مُنى قد زارته، وحملت إليه من الأغراض التي أتتها صدقة!

​أوّل مرّة عرفتُ أنّها توزّع من أغراضها، صُدمت. وهذا عرفتُهُ بالمصادفة. ليس كلّ الذين يقبلون إحسانًا يخبرون عنه. لا أقول إنّ عليهم أن يفعلوا، بل أردّد ما هو عامّ عمومًا. ربّما يخفون أمر الإحسان خجلاً. وربّما استدرارًا لحسنات أخرى. وربّما لمساعدتك على طاعة الوصيّة (متّى 6: 3)، ليبقى لك نصيب في المكافأة الأخيرة. ذاك المريض، الذي أخبرتني عنه، عندما زرتُهُ، قدّم لي حلوى قال إنّ مُنى قد أحضرتها له!

​هل قالها عن غير قصد، زلّة لسان مثلاً؟

​لستُ أعرف. أرجّح! لكنّ ما أعرفه قلتُهُ: صُدمت. فمُنى لا تبدو عليها علامات التعاضد. إبهامها يمنعك من أن تنقّب عن كنوز فيها راضية.

​- "أين مُنى؟".

​منذ مدّة، استيقظ كثيرون في المنطقة على هذا السؤال: "أين مُنى؟".

​كلّنا عرفنا أنّ البناء، الذي شغلت مُنى غرفةً فيه، قرّر أصحابه أن يبيعوه، ليقام مكانه آخر جديد. سألتُها عن صحّة الخبر قَبْلَ أن يحدث. أنكرتْهُ بثقة! لا أقول كذبت، بل أنكرت. لم أفكّر في أنّ إنكارها يمكن أن يندرج ضمن إبهامها! واختفت.

​هل عوّضها أصحاب البناء بما يجعلها قادرةً على أن تنتقل إلى مكان آخر؟

​لا أحد يعرف تمامًا. ثمّة أكثر من جواب. لكنّ ما يجتمع كلّ مَن يعرفها عليه أنّها قد انقطعت عن الظهور. غابت من دون أثر.

​حاولتُ أن أسأل عنها بعض "أصدقائها"، أي المساكين الذين كانت تستقي أسرارهم، وتكشفها قَبْلَ الآخرين عمومًا. وكان الجواب واحدًا. كان سؤالَ المنطقة عينه: "أين مُنى؟".

​الناس بعضهم نِسام. والنسيم يلفحك، ليمضي. ماذا يبقى لك منه؟ أثره. وهذا بعد أن يمضي، يبقى ذكره. وإذا ذكرتُ مُنى الآن، لا أذكر إبهامها، بل فرادتها. لا أحد يشبهها. لا أقول ذلك على مستوى الأناقة التي كانت تصرّ على أن تُرى عليها. فأناس كثيرون أنيقون من خارج. لكنّني أقوله على غير مستوى. مستوى الانحجاب الذي كنتُ أسمّيه إبهامًا. ومستوى التمتمات المسموعة. ومستوى التعاضد.

​- "أين مُنى اليوم؟".

​لا بدّ من أنّها نزيلة بناء آخر تعطّره بأدعيتها وبضرورتها التي تقوى بعد وجع الغياب. هناك كثيرون يغيبون عن عينينا. كلّ الناس سيغيبون. ولكن، هل يشكّل غياب الذين يغيبون وجعًا عامًّا، وجعًا قادرًا على أن يبقى، وجعًا دائمًا لا يغيب قَبْلَ أن نغيب؟

​كيف تستطيع شيخة غريبة عن طرقاتك أن تفتح، في قلوب كثيرة، طريقًا باقيًا؟

​"أعطني هذا الغريب" الذي لا أحد يعرف مَن الذي غرّبه فيما كان بيننا وفيما ارتحل عنّا. أعطني أن أعرف أين هو الآن. لا أريد أن أسترجعه. فقط، سأقول لك: لا تتعجَّل في اتّهامه بما ليس هو عليه. خذ وقتك. خذ وقتك كلّه، واكتشف كنوزه. حدّثه. دعه يعرفك. ولو تجاهلك، فثق بأنّه عطر، عطر لا يشبهه عطر آخر، عطر ثمين. أعطني أن أعرف أين يقيم. لن أزوره. وإن قَبِلَ أن أزوره، فلن أزوره. فقط، سأهنّئك على أنّه غدا جارك.

شارك!

جميع الحقوق محفوظة، 2023
Skip to content