أن تنعطف فيما أنت عالٍ حقًّا، هذا يعني أنّك تستقبح كلّ مجد أرضيّ زائل. الناس سلوكهم. وكان د. ميشال خوري، الذي ودّعناه منذ أسابيع، يقنعك، في سلوكه، بأنّه يتوق إلى المجد الحقّ.
كان رجلنا بعيدَ الغور، إذًا. وهذا لا يبدو لك، فقط، في الأمور الكبرى التي جعلته يتربّع في مراتب المعتبَرين في الجماعة (أمين عامّ حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة، مثلاً)، بل، أيضًا، في تفاصيل صغيرة عاد أناس كثيرون لا يعبأون بها. فميشال خوري، مثلاً، لم يُرَ، مرّةً، يتجاوز شخصًا يعرفه من دون أن يعتني بأن يلقاه، من بعيد، بابتسامة تلفّ وجهه كلّه، ويطوف به بسلام وكلام. أيًّا كان ما ينتظره أو مَنْ، وقفة، دقيقة، لا يمكن أن يحرمك إيّاها (أو يحرم نفسه!). هذا ليس إهمالاً لما ينتظره أو لِمَنْ، بل إقرار بأنّه لا يعترف بوجوده بعيدًا من الناس جميعًا، وتاليًا تعبير عن أنّه يحتضنك في قلبه دائمًا. وهذا تفصيل غاية في الأهمّيّة في زمان بتّ ترى فيه بعضًا، مِمَّنْ تصنعهم أمكنة يظنّونها عاليةً، يتعاطون الآخرين كما لو أنّهم هباء! وداعة هي؟ أجل، وداعة. قناعة بأنّ الناس، أيًّا كانوا، صورة الله؟ أجل، قناعة. رذل للأنا؟ أجل، رذل. محبّة لا تسعى إلى منفعتها، بل تفرح بالحقّ؟ أجل، محبّة تفتقر إلى أن تُفرحك. زرع من وعي النهضة التي قالت إنّنا إخوة؟ أجل، أجل! كان ميشال خوري قلبًا معروضًا في غير أمر كبير أو صغير، أي كان يأتي من تلك الكلمات الجديدة التي فهم أنّها لم تسكن في دفَّتين إلاّ لتخرج، وتتمشّى في وجوه تطلب أن تُقرأ!
عندما قال يسوع، في صلاته الكهنوتيّة، لله أبيه: إنّ "الكلام، الذي بلّغتنيه، بلّغتُهُ إيّاهم" (يوحنّا 17: 8)، حكم أنّ ما من علاقة ممكنة بين الأرض والسماء على سوى ما جاد علينا الربّ به من كلمات. ما من آمر آخر في الكون، يعلّمك أنّك ابن، يفوق أمر أن تلتزم ما أنزله علينا يسوع من فوق، من أبيه الذي في السماوات. وهذا أنعم على ميشال خوري بأن يلتزمه. وأعطاه التزامه أن يسعى إلى أن يؤاخي جميع البشر، كبارًا وصغارًا، قريبين وبعيدين. ثمّة كثيرون يمشون على الأرض يتعثّرون بهمومهم. كثيرون، إن رأيتهم، يذكّرونك بالجحيم! وثمّة بشر جعلتهم الكلمات المبلّغة، التي تنزَّلت من فوق، تعزيةً لسواهم، انتشالاً من عمق الجحيم، جنّةً ريَّا. كانت حماسته على دفق الودّ عليك، طبيعيًّا، مدهشة. وهذه الحماسة، التي هي من أرفع أنواع التبليغ، كانت تبديه أنّه ما زال فتًى يلتصق بأولئك الفتيان الجدد الذين أدركهم الله، وأمرهم، في سرّ قلوبهم، بأن يعطّروا الأرض برضًى سكبه عليهم بفيض. كلماتٌ أو عطر، هي هو!
هذا لا سيّما يبيّن أنّ النهضة، التي اختارها نهج حياة، لم يتعاطاها عرجًا بين الجانبين. وهل المسيحيّة سوى مذهب ثبات؟ لا يعني شيئًا أن تمشي قليلاً في التزامك، ثمّ تقف، ثمّ تتراجع. لا يعني شيئًا أن تحرّكك براعة الانطلاقة من دون أن تكمل شوطك. ما يعني، أو كلّ ما يعني، أن تعتقد أنّ شوطك هو حياتك كلّها، يومًا فيومًا، ما دام لك يوم. ينبغي للعالم أن يحيا. وإن كنت طبيبًا، اختصاصك أن تعالج رئات الناس، يعني أن تسعى إلى أن تساعدهم على أن يحيوا طبيعيًّا. وكيف إن كنت تعتقد بحياة أخرى؟ كان ميشال خوري يريد للناس حياتين، أو صحّتين، كما نقول في كنيستنا، صحّة الجسد وصحّة النفس.
أذكر، مرّةً، أنّنا كنّا مجتمعين في منزل شقيقته المرحومة آنيت الذي يستظلّ بدار مطرانيّة بيروت. كنّا بضعة كهنة وعددًا من الإخوة العلمانيّين الذين تعنيهم شؤون النهضة في كنيستنا. وأخذ، من دون تكلّف، يمدّنا بنصائحه الطبّيّة. ما أذكره أنّه أرادنا أن نتوقّى المرض ما استطعنا، كلٌّ منّا وكلّ مَنْ لنا. واستفاض في ما قاله وفي ردّه على أسئلتنا. لا أستطيع أن أعيد كلّ ما سمعته منه. لكنّني قادر على أن أراه، كما لو أنّه الآن، ينعطف على بشريّتنا انعطافًا يقول، ببلاغة أخويّة، إنّكم هياكل للروح القدس.
كيف تضع ما تعرفه في أيدي الناس، مجّانًا؟ كيف تريدهم أن يحيوا أصحّاء فرحين؟ كيف تكلّمهم بوداعة مدهشة؟ كيف ترقص عينيك فرحًا بهم؟ كيف تنحني عليهم ولهم؟ كيف يعظم تمسّكك بهم كما لو أنّهم إخوتك، لحم من لحمك وعظم من عظمك؟ كيف تحبّ الكهنة؟ أجل كيف تحبّ الكهنة؟ هذه أمور لا يمكن أن يفهمها حقًّا سوى الذي يأتي من العالي الذي دنا إلينا. أن تنزل إلى الناس، هو، لعمري، أن تحاكي ربّك الذي كان كلّه تنازلاً. المسيحيّة كلّها أن تتشبّه بإله لا ينفكّ يتنازل إليك، ليرفعك إلى أحضانه.
لا أستطيع أن أُسقط عليه أنّ افتتانه كان محصورًا بِمَنْ أنجبهم وعي النهضة. لكنّني لا أستطيع، أيضًا، أن أغمض عن أنّه كان يخصّهم بمودّة عظيمة. وهل هذه نقيصة؟! أن تودّ النهضويّين في كنيسة الله، إن كنت ربيبهم أو لم تكن، أمر يعني أنّك تودّ أن ترتسم النهضة على كلّ وجه. هذا حلم النهضويّين أساسًا. كان ميشال خوري يجسّد الحلم في يقظته. يطلب أن يعمّ. المودّة شجاعة وتشجيع! وأنت، دونه في السنّ وغير السنّ، لا يفرحك أمر كما أن يأتيك دفع من الشيوخ إلى أن تجتهد في إكمال شوطك. هذا ليس تحزّبًا لخطّ طارئ. هذه ثقة أصيلة بأنّ ما تراه، في جماعة النهضة، هو الحقّ كلّه. لا يعيب الإنسان أن يبدي ثقةً بما يرتاح إلى أن يثق به. هذا ليس لك أيّ فضل فيه. لقد أراد الله أن يقيمك من المزبلة. وهل يليق بك أن تهمل إرادته؟ وهل أن ترمي عنك الثقة به؟ قضيّتك قضيّة إله كشف أنّه يحبّ كنيسته ناهضةً أبدًا.
خُطف ميشال خوري إلى المجد الذي لا يزول. يبقى أن نتأصّل في الانعطاف طريقًا إلى المجد الباقي!