عندما صدر كتاب "من بيت إلى بيت" - شهادة في حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة، عن "تعاونيّة النور الأرثوذكسيّة" العام الـ2005، رفع بعض إخوة صوتهم يسألون: هل ما كُتب جرى كما دُوِّن فعلاً؟
قَبْلَ أن أكشف جوابي، أودّ أن أشير إلى أنّ هذا السؤال لم يصل إليَّ، مرّةً، من دون أن ترافقه ابتسامات أخويّة. وهذه، التي اعتدتُ أن أستقبلها من وجوهٍ أحبّها، لم تشعرني بأنّها تغطّي استخفافًا ما، بل كانت كما لو أنّها رداءُ اعتذارٍ يدثّر سؤالاً ينتظر جوابًا. أمّا جوابي فكنتُ أستبقه، دائمًا، بقولي إنّ كلّ شهادة للحقّ، تتعلّق بأحداث، يطلقها ما انطبع في قلب صاحبها. وإن كانت تنقل أمورًا "عن ماضٍ مضى"، فلا بدّ من أنّ ناقلها ينقل "الماضي" إلى حاضر لا يخلو منه. هل ما قلتُهُ حرّكه شعوري بأنّ ثمّة مَنْ ضمّن سؤاله شكًّا في أنّ الرؤية النهضويّة غير قابلة للتطبيق؟ لا، بتاتًا! فما قلتُهُ، قلتُهُ ببراءة.
إن استبقيتُ السؤال وأبعدتُ طارحيه قليلاً، يعنيني أن أذكر، بحزن، أنّ ثمّة بيننا أشخاصًا لمّا يُدركوا أنّ الرؤية الحركيّة ليست سوى أناس يسعون إلى أن يحملوا، في كلّ ما ينبض فيهم، ما جرى في ذلك اليوم المبارك، يوم الـ16 من شهر آذار العام الـ1942. دخلوا الحركة، بلى. ولكنّ دخولهم عاديّ لا يُحاكي اللهب الذي تراه في سواهم، في إخوةٍ لنا ينعش سعيُهم قلوبَنا اليوم. وعندي، كلّ وعي ناقص إن لم نتوافق، دائمًا، على أنّ كلّ سعي راضٍ لا يستمدّ إلحاحه، فقط، من أخبار ٍمنقولةٍ تظهر حلاوة انطلاقة الحركة، أو إرثٍ حفرَهُ النورُ خطوطًا، بل، إلى هذا وذاك، من وجوهٍ حلوةٍ تكشف حقّ الانطلاقة كما لو أنّها حدثت اليوم. هذا يوافق إيماننا بأن ليس من أمر خلاصيّ يمكن أن نسعى إليه، بجدّيّة، إن لم تقتحمنا حقيقة "اليوم". فكلّ ما عندنا، نحن الأرثوذكسيّين، قائم على لاهوت "اليوم". فالله يعمل في "اليوم". "اليوم صار الخلاص للعالم". وهذا، الذي لا يضاف إليه شيء، إن أتينا منه إلى تيّارنا النهضويّ عَمَلاً لله، يعني أنّ ما جرى في الزمان يتجاوز الزمان (من دون أن يُلغيه)، أي أنّ حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة، التي كُشفت في تاريخ معيّن، هي، في طبيعتها، حرّة من انحصار الأيّام وتقادم الأيّام. بلى، الناس يأتون ويذهبون. ولكنّ الرؤية الحركيّة لا تنحصر في بشر انحصارًا كلّيًّا، بل نستمدّها من الله دائمًا، من الله الذي يسود التاريخ. هل بما أقوله تراني أتراجع عن كشف الوجوه الحلوة؟ لا! لكنّي أستعرض الوعي الذي يشرّعها، ويبيّن عمقها وحلاوتها. بمعنى أنّنا، إن اعتنقنا أنّ الله سيّد التاريخ، نفهم أنّ رؤيتَنا وجوهٌ تحيا في 16 آذار 1942 مستمرّ. تأتي من ذلك اليوم المتحرّك كما لو أنّ زمانها كلّه، كلّه كلّه، بات يومًا واحدًا.
على هذه الحقيقة البريئة من أيّ خَيلان، إنّما يقوم التزامنا الحركيّ. ليس "من بيت إلى بيت" سطورًا في تاريخٍ محدّد أنجبه تاريخٌ محدّد، بل سطورٌ في حاضر لا يتعب، ولا يهدأ، ولا يتبدّل، ولا يمكن أن يصيبه عقم. سطورُ في الله الذي أحبّه قوم، ففتح لهم باب يومه، ليقيموا فيه، ويتحرّكوا فيه. سطورٌ في وَلَهٍ لا يُحصَر بنحو وأنحاء. في جنونٍ عاقلٍ يعي أنّه لا يريد أن يعي سوى أنّ الله حيّ ومعطي الحياة. في طيورٍ خلقت، لتزقزق وتحلِّق، وتثير الناظرين إليها على أن يمدّوا نظرهم إلى فوق، إلى "الآب الذي يقوتها". في زهورٍ طيبها شأنه أن يتضوّع. في بشرٍ لا يريدون شيئًا في الدنيا إلاّ ما يريده الله الذي شاء أن ينقلنا من كثافة كلّ زمان إلى "حرّيّة مجد أولاده" (رومية 8: 21)، حتّى "بالمحبّة نخدم بعضنا بعضًا" (غلاطية 5: 13).
لست بما أقوله أزكّي نفسي أو نصًّا استلهمتُ سطوره من وجوه إخوة أعطوني أن أرى، في احتضانهم وسهرهم وفهمهم وصدقهم وغلاوة حبّهم وغيرتهم على الحقّ وكنيسته، أنّ "السماء باتت هنا فعلاً". وحاشا لي أن أشير إلى خير لحم ودم، إن اضطررتُ إلى أن أخبر أنّ ثمّة إخوةً قرأوا "من بيت إلى بيت" من دون أن يكرّروا طرح السؤال الذي شغلني نقله هنا. بلى، كرّروا الابتسامة، إنّما ليدلّوا، بخفرٍ، على فرحهم بما اختبروه، ويعيشونه، ويسعون إلى نشره. وهذا، بصدق، لا أقوله تمييزًا ما بين قارئ وآخر. فإنّني، وإن لم أُسقط على ابتسامة ذوي السؤال فرحَ مَنْ ذكرتُ فرحهم، إلاّ أنّني لم أخفِ أنّني لم أشعر بأنّ طرحهم إيّاه يتضمّن أنّ رؤيتنا غير قابلة للتطبيق. وإن قلتُ الآن: ربّما حرّكتهم إلى سؤالهم برودةٌ في الالتزام يرونها تُبعد عن تطبيق الرؤية شخصًا أو مجموعةً أو مجموعات، فهذا لا يغيّر براءة استقبالي سؤالهم، وأزيد الآن، بثقة، براءة نيّات طارحيه. فأنّى لأحد منّا أن يشعر ببرودة ظاهرة إن لم يدفئه وعي حقّ يسكن عينَيْه وفؤاده وكلّ ما ينبض فيه؟ ويفرحني، كثيرًا، بأن يكون أحد الإخوة حثّته على طرح سؤاله رغبةٌ في تجديد ما يرى أنّه يعوزه تجديد. فحسبي أنّنا كلّنا نحتاج إلى تجديد. على أنّ الكثيرين بيننا جَمالهم أخّاذ، أقول: كلّنا. أجل، كلّنا. فنحن دعوتنا الدائمة أن ندعو أنفسنا اليوم، وفي كلّ يوم، ما دام لنا يوم، إلى أن نجدّد أنفسنا بنور رؤيتنا عينها. ولا أشجّع أحدًا على خطأ إن ختمتُ سطوري بقولي إنّ كلّ مَنْ ألهبته هذه الدعوة، أي كلّ مَنْ قَبِلَ بيت الله بيتًا له وجعل بيتَهُ بيتًا لله، يمكنه أن يمزّق كتابًا أثار سؤالاً، إذ يكون قد صار هو الجواب.
هذا جوابي!