كانت أمّي، رحمها الله، أمام أيّ صعوبة تعبر عليها أو على أيٍّ من أقربائها وأصدقائها، تردّد هذه الكلمات العامّيّة المعروفة: "تنذكر وما تنعاد". من ثقافتها، ما يعبر، كلّه أو معظمه، يجب أن يُحفَظ، في كثير من الأحيان، للمنفعة، لقبول الجيّد منه وتحاشي الرديء. أين الله في هذا التذكُّر؟ الله قائم في خلاصه. إن كنّا قادرين على أن نتذكّر، هذا يعني أنّ الله أعطانا، في أوقات يعرفها، أن نخلص برحمته!
أبدأ من هنا، من واجب "التذكُّرات النافعة"، "التذكُّرات الشاكرة لله فعله الخلاصيّ والراجية أن يبقى يظلّل هذا العالم برحمته". صار لي أن أتتبّع بعضَ ما وَصَفَ بعضُ الأصدقاء كوفيد ١٩ به. أعتقد جازمًا أنّ أيّ واحد من الإخوة، الذين يتابعون هذه السطور، يعلم ما أقصده أكثر منّي. كلّكم تعلمون ما وُصف به هذا المرض على منصّات معروضة للعموم. وعلى علمي بعلمكم، سأزعجكم بتردادي عليكم وصفَين لهذا الوباء. الأوّل بأنّه "مجرم"، والثاني "صديق". لا أختصر، بل أقبل الأوصاف المعلومة في أقصى تناقضاتها. لا أقصد أنّني أقبل صداقة المرض أو الموت مثلاً، بل أن أشجّعكم على الهرب دائمًا من أيّ اعتقاد يريدنا أن ننتظر الله في أوان الفرح فقط. لا يأتي الله متأخّرًا! الله، حاضرًا، مخلّصٌ أبدًا، في أوان الصداقة والخصومة، في أوان الحزن والفرح، أوان المرض والصحّة، الحياة والموت. السؤال الباقي هو: كيف نراه "نحن"، في أوان الخصومة والحزن والمرض والموت؟ الرؤى الصالحة نبعها الإيمان بأنّنا بنوه.
هذا يسمح لنا، مؤمنين، بأن نختبر الخير في الأزمة!
من خيرات هذه الأيّام الموبوءة، شهادات سطّرت ذاتها كلماتٍ من نور. قال لي أحد الإخوة: "أرى الكنيسة، في هذه الأيّام، تشبه خليّة نحل". لم أطلب منه أن يوضح ما سمعتُهُ منه. كان واضحًا. يفرحني أن يقوم الإخوة دائمًا إلى رؤية جَمال الكنيسة، (أي هنا جَمال الإخوة العاملين فيها)، الجَمال الذي ليس مثله جَمال. كنتُ أعرف أنّه خصّ بقوله الذين يواجهون الموت بالحبّ. هذا عالم لا حياة له من دون حبّ. العالم لا تفنيه الأوبئة سريعًا. تكسره. تجعله يضطرب كثيرًا… لكنّها لا تفنيه. الذي يسرع في إفنائه أن ينتفي الحبّ منه. كيف واجهوا الموت بالحبّ؟ بالعطاء، بالركض المُنتدَب إلى خدمة الناس المحتاجين.
لا أنحصر. الذي بدا في هذه الأيّام، أيّام كوفيد ١٩، أنّ العالم استيقظ إلى الحبّ، أو استيقظ الحبّ فيه، أو انكشف لعيوننا ما كانت عاجزةً عن رؤيته كما هو. ما قلتُهُ عن جَمال الإخوة، رأينا مثله في خارج الكنيسة أيضًا. أشياء كثيرة كانت تقول إنّ الله هنا يُجنِّد له أناسًا في كلّ مكان. يبقى، من دون رؤية هذا التجنيد الإلهيّ، من الصعب عليَّ أن أفهم كيف احتلّت العالم، في لحظة افتقاد، أنّ على الحياة في الأرض أن تربح في هذه المعركة التي اعتبرها الكثيرون، في لبنان والعالم، "حربًا كونيّة"، "حرب وجود"، أيْ أنّ على الحبّ أن يربح. شكرًا لله الذي يفتقدنا في وجوه منه من غير لون أو ثقافة أو لغة أو مذهب ودين!
أحبّ أن أترك للتاريخ أن يسأل: كيف ارتضى المؤمنون أن يتركوا العبادة الجماعيّة "إلى حين"، ويذهبوا بها إلى البيت، أو إلى خدمة الحياة في الأرض؟ ليس من الحكمة أن يُرمى على هذه السطور أنّ واضعها يقبل أن تُترك العبادة لحظةً! أترك سؤالاً للتاريخ! لا تهمّني الآن، أكرّر: الآن، المجادلات التي رافقت القرارات التي أخذتها القيادات الكنسيّة في أمر إقفال الكنائس وحصر الصلوات في الكهنة وبعض معاونيهم، أو الدُور التي قرّر أهلها أن يتابعوا اجتماعاتهم، أو التراشق بتكفير الذين فعلوا (أي تابعوا اجتماعات العبادة) من جهة وبجنون الذين لم يفعلوا من جهة أخرى. أكتب عن الحبّ. ما كنت أرجو أن نقرّ كلّنا فيه، بدلاً من المجادلات والتراشقات…، أنّ العالم، في هذه الأيّام، بدا عينَين إلى الله! لا أناقش القرارات التي استخدمت منصّات التواصل التي أرادتنا أن نبقى، في تفرّقنا، مرتبطين بشركة صلاة! قيل: "المرحلة استثنائيّة". كنت أحبّ ألاّ ينسى أحدٌ بيننا أنّ الكنيسة انكشفت عظمتُها في التاريخ، أكثر فأكثر، في أوقات استثنائيّة. في شهادة الدم. في توضيح العقيدة القويمة. وفي سرّ الحبّ الذي يبيع كلّ شيء من أجل الله وملكوته… من طعم الحبّ، أحببت التشجيعات العلنيّة على ما يحفظه في الجماعات إخوةٌ قليلون، أي على "وصيّة المخدع" (متّى 6: 6)، على الحثّ على اختبار "الهدوئيّة"، وعلى الانعكاف على قراءة الكلمة التي هي زادنا يوميًّا…! هل نسجّل في ذاكراتنا، أنّ الله، الذي سمح لنا في أيّام يحكمها الوباء بكلّ عراء موجع، بسقوط وجوهنا التي سترناها بأوراق أخرى!، وبالخوف من خسران كلّ شيء، أضاء العالم ببلاغة الحبّ الذي تجلّى في أشكال مذكورة وغير مذكورة؟ أحبّ أن نحفظ للمنفعة أبدًا أنّ الله سمح لنا، في أيّام الوباء الحاضر، بأن نكتشف، واقعيًّا، بأنّ ما نثق بأنّه لنا، إن لم نثمّره دائمًا، يمكن، بلحظة، أن يُنزع منّا!
كلّنا نعرف أنّنا، بعد ضعف هذا الوباء، سنُواجه صعوباتٍ كثيرة. كيف نسترجع كلّنا، بسرعة ونقاء، أنّنا لا يمكننا أن نكون شيئًا من دون الله والحياة معه وله؟ هذا سؤال لنا جميعًا، لكلّ مَن يرى نفسه أخويًّا في هذه السطور، تفرحه أو تحزنه. كلّنا مسؤولون اليوم عن أن نستمرّ في خدمة المحبّة. لن يتركنا بسرعة ما يفعله فينا هذا الوباء المخيف. ولكنّنا يمكننا أن نتبع آثاره أينما رسخت، ونحاربه بالحبّ عينه، نحاربه بالله الذي لا حياة لنا من دونه. هذا، من الذكرى، موعد مع الجهاد الباقي من أجل حياة العالم!
نُشر في مجلّة النّور / 2020