24يونيو
Miracle at Cana

والدة الإله

ملاحظة

ملاحظة

ملحق

            تحظى مريم فتاة الله بمكانة عظمى في قلب معظم الذين انتسبوا إلى المسيح المخلّص، ولها في أفئدتهم محبّة ووجد كبيران. غير أنّ هذا لا يمنع القول إنّ مسيحيّي العالم - وإن قالوا، على العموم، قولاً واحدًا في حقيقة تجسّد ابن الله الوحيد - لا يتّفقون في وصف مريم وتكريمها ولا في تحديد مساهمتها في خدمة السرّ "الذي قبل الدهور". ولا يخفى على مطّلع أنّ الفكر الأرثوذكسيّ أبى العقائد المستحدثة (مثلاً: عقيدة "الحبل بلا دنس"...)، التي لا سند لها، التي حدّدتها كنيسة رومية، وخطّأ موقف بعض فئات البروتستنتيّة الذين تجاهلوا حقيقة مريم وتحدّثوا عنها باصطلاحات غريبة عن التراث المستقيم. ويبقى أنّ ثمّة بعض الهراطقة أعداء التجسّد، أمثال "شهود يهوه" اليوم، يحتقرون مريم احتقارًا كاملاً - وإن أظهروا في بعض المواقف عكس ما هو ثابت في تعليمهم -، إذ ينعتونها بما لا يليق بمن حملت في حشاها بابن الله الوحيد، ومكّنته من أن يأتي إلى العالم بشرًا ويفتدينا بدمه.

            ماذا تقول الأرثوذكسيّة، التي حافظت على استقامة العقيدة، عن والدة الإله، وما هي مكانتها الحقيقيّة في العبادة والضمير الأرثوذكسيّيَن؟

            غنيٌّ عن البيان، بادئ بدء، أنّ الكتب المقدّسة لا تتحدّث عن مريم والدة الله أو تذكرها العقيدة الأرثوذكسيّة إلاّ في معرض الحديث عن تدبير الله الخلاصيّ. غير أنّ العهد الجديد قد لفت، منذ البدء، إلى خصائص جذّابة في شخصيّة مريم جعلتها شفيعة العالم الحارّة ومرشدة الذين يعشقون القداسة إلى ينبوع القداسة. وذلك بأنّها برزت فيه أنّها مثال المؤمنة الخاضعة لمشيئة الله (لوقا 1: 38) التي تحفظ كلمات يسوع في قلبها (لوقا 2: 19)، وتتبعه، بإخلاص، حتّى النهاية.

            ولقد أدركت الأرثوذكسيّة عجز الكلمات البشريّة وقصورها عن التعبير عن سرّ الإله المتجسّد. فحاولت، قدر استطاعتها، حصر تحديداتها العقائديّة، وبخاصّة المتعلّقة بمريم، بعبارات قليلة تعلنها في كلّ خدمة طقسيّة، إذ تناديها بأنّها: "الكلّيّة القداسة الطاهرة الفائقة البركات المجيدة سيّدتنا والدة الإله الدائمة البتوليّة مريم". وهذا النداء يحوي النعوت الثلاثة الرئيسة التي تخصّ الأرثوذكسيّة مريم بها، وهي: "والدة الإله"، وهو اللقب الذي منحه إيّاها المجمع المسكونيّ الثالث المنعقد في أفسس في العام 431؛ و"الدائمة البتوليّة"، وهو اللقب الذي جاء به المجمع المسكونيّ الخامس المنعقد في القسطنطينيّة في العام 553؛ وأمّا لقب: "الكلّيّة القداسة"، فلم يحدّد عقائديًّا، لكنّه مقبول، ويستخدمه جميع الأرثوذكسيّين في العالم.

            هذا، وقد ميّزت الأرثوذكسيّة، في تعليمها، فيما تتكلّم على مريم، بين اصطلاحَيْ العبادة والتكريم. فهي لا تدعو، مطلقًا، إلى عبادة مريم كعبادة الله، بل تكرّمها وتعظّمها لأنّ "إلهًا حقًّا وُلِدَ منها" (القدّيس يوحنّا الدمشقيّ). وهي بذا تطيع ما جاء على لسانها في إنجيل لوقا: "ها منذ الآن (أي منذ قبولي الإلهَ في أحشائي) تكرّمني جميع الأجيال" (1: 48).

            تحمل عبارة "والدة الإله" تراثًا إيمانيًّا ذا قيمة لاهوتيّة عظيمة. فاللفظة اليونانيّة تعني "حاملة الإله"، أي التي حملت الإله في رحمها. وقد وُضِعَ فحواها، أوّلاً، على لسان أليصابات زوجة زكريّا الشيخ التي لفظت ذاك النداء التعظيميّ ("من أين لي هذا أن تأتي أمّ ربّي إليّ"، لوقا 1: 41- 43؛ أنظر أيضًا: غلاطية 4: 4) الذي راج، وفق شهادة كليمنضس الإسكندريّ، وانتشر انتشارًا واسعًا، منذ بدء المسيحيّة. استعمل العبارة الكثيرون من الآباء الأوّلين، ومنهم: هيبوليتس، وأوريجانس الذي شرحها في تفسيره للرسالة إلى كنيسة رومية، وديديموس الضرير، وألكسندروس بطريرك الإسكندريّة الذي خطّها في رسالة وجّهها إلى مجمع عقد ضدّ بدعة آريوس في الإسكندريّة في العام 320 (أي قبل المجمع المسكونيّ الأوّل بخمس سنوات)، وكيرلّس الأورشليميّ، وغريغوريوس النيصصيّ، وكيرلّس الإسكندريّ... وغيرهم، ممّا يؤكّد أنّها (عبارة "والدة الإله") كانت معروفة ورائجة قبل أن سطّرها الآباء عقيدةً في مجمع أفسس.

            يقول المطران كاليستوس (وير): إنّ تسمية والدة الإله "مفتاحُ العبادة الأرثوذكسيّة الموجّهة إلى العذراء"، وذلك بأنّنا "نكرّم مريم لأنّها والدة إلهنا، ولا نكرّمها منفصلة عنه، بل بسبب علاقتها بالمسيح" (أنظر: الأيقونات الأرثوذكسيّة التي تظهرهما دائمًا معًا، ولا تصوّر مريم من دون ابنها). ويتابع المطران كاليستوس كلامه بقوله: "إنّ التعليم الأرثوذكسيّ المتعلّق بوالدة الإله منبثق من تعليمها الخاصّ بالمسيح... وحين أكّد آباء مجمع أفسس (تسمية مريم بوالدة الإله)، لم يكن ذلك بقصد تمجيدها، بل من أجل الحفاظ على العقيدة الحقّ المتعلّقة بشخص المسيح". ويخلص إلى القول: "وأولئك الذين يرفضون تكريم مريم هم أنفسهم أولئك الذين لا يؤمنون حقًّا بالتجسّد".

            ليس لقب "والدة الإله"، إذًا، هو فقط لقبًا تكريميًّا لمريم. لكنّه ضرورة لاهوتيّة تحتّمها، كما يقول القدّيس كيرلّس الإسكندريّ، "حقيقة التجسّد". ولا يمكن أحدًا أن يرفض هذه الحقيقة، ويُقبل في الإيمان الحقّ. فمريم هي أمّ الربّ، وهي أمّنا التي لا تنفكّ تدلّنا على أن نتبع يسوع ونطيعه، إذ إنّ صوتها مازال يلحّ علينا بقوّة: "مهما قال لكم فافعلوه" (يوحنّا 2: 5).

شارك!

جميع الحقوق محفوظة، 2023
Skip to content