24يونيو

لماذا معموديّة الأطفال؟

            هو سؤالٌ ترافقه أو تكوّنه اعتراضات عدّة تُزكّي موقف بعض المحتجّين على إقامة المعموديّة المبكرة الذين لم يعرفوا التراث المستقيم، أو لم يقبلوه. مِنْ هذه الاعتراضات: أنّ يسوع اعتمد في سنّ الثلاثين، وأنّ العهد الجديد لا يذكر معموديّة الأطفال صراحةً، وأخيرًا لا آخرًا أنّ الصغار لا يفهمون معنى السرّ ومتطلّباته في حياتهم.

            ما يبدو أكيدًا للعلماء أنّ مسألة معموديّة الأطفال كانت مطروحة في العصر الرسوليّ، وأنّها أثيرت بَعْدَهُ، بحدّةٍ، في زمن المناظرات البلاجيوسيّة (القرن الخامس) التي ثبتت بسببها هذه المعموديّة. غير أنّ أمرها لم يُطرح جانبًا بشكل نهائيّ. وذلك بأنّ بعض التيّارات المتشيّعة أثارت هذه المسألة من جديد.

            سنتناول الاعتراضات واحدة تلو الأخرى، لنردّها بالإجابة عنها ولو بشكل مقتضب. نبدأ بالأوّل، فنقول إنّ معموديّة السيّد كانت "خاصّة"، ولا يمكن أن تؤخذ حجّةً للاعتراض على معموديّة الأطفال. وذلك بأنّ يسوع كرجل أتى بين شعب له معتقداته وشرائعه، كان لا بدّ له، وفق الشريعة التي أخضع نفسه لها (متّى 3: 15؛ غلاطية 4: 4ي)، من أن ينتظر بلوغ الثلاثين من عمره، وهو السنّ الذي فيه يحقّ لكلّ رجل يهوديّ، حسب الشريعة، أن يدخل المجمع، ويعلّم (لوقا 4: 16- 30). فلمّا حان الوقت الشرعيّ إذًا، أتى السيّد إلى يوحنّا المعمدان - وهو ليس محتاجًا إلى معموديّة التوبة التي نادى بها السابق - ليشير، في بدء رسالته التبشيريّة، إلى أنّه إنّما جاء لـ"يكمّل كلّ بِرّ". فكانت معموديّته مناسبة كشف فيها اللهُ الآب، بتأييد كامل للروح، عن بنوّته ليسوع. فيسوع ابنُه الحبيب ومسرّتُهُ الذي سيتمّم مشيئة أبيه إلى الأخير. هذا الخضوع الكامل لإرادة الآب، الذي سوف يُظهره يسوع في رسالته كلّها، أراد أن يدلّ عليه منذ البدء من طريق الموت الرمزيّ في الماء.

            في العهد الجديد، ثمّة مواضع عدّة تشير إلى أنّ الرسل عمّدوا عائلات بكامل أفرادها (أعمال 16: 15- 33، 18: 8؛ 1كورنثوس 1: 16). غير أنّ بعض المحتجّين على المعموديّة المبكرة يرون أنّ هذه المواضع لا تؤكّد معموديّة الأطفال. ولكنّنا نقول إنّها، بلا شكّ، لا تنفيها. هذا الجدل - حول هذه الآيات الكتابيّة - قد نجد له نهاية إذا رجعنا إلى بعض الممارسات أو النظم القديمة التي تساعدنا في بحثنا. ما لا شكّ فيه بدءًا أنّ المعموديّة المقدّسة هي وصيّة السيّد للكنيسة. التلاميذ الأوّلون الذين أتوا من بيئة لها شرائعها وقوانينها، لا بدّ من أنّهم، في تنفيذهم أمر الربّ: "اذهبوا وتلمذوا جميع الأمم وعمّدوهم باسم الآب والابن والروح القدس" (متّى 28: 19)، قد استلهموا الشريعة القديمة التي قالت إنّ العضويّة في شعب الله لا ينالها الذكور المولودون من أبوين يهوديّين من دون اختتان. ونرى أنّ العهد الجديد يُظهر الختان كصورة المعموديّة (كولوسّي 2: 11- 12)، وهو كان يتمّ للأطفال بعد ولادتهم بثمانيّة أيّام (تكوين 17: 12؛ لاويين 12:3). ولا بدّ، تاليًا، من الملاحظة أنّ الوثنيّين الدخلاء كان بإمكانهم وصبيانهم أن يصبحوا أعضاء في شعب الله من طريق الختان، الذي كان يرافقه "غسل التطهير" الذي كان يجري للنساء والأطفال أيضًا. ونجد أنّه من غير المعقول أن يكون التلاميذ الأوّلون قد أهملوا هذا "النهج اليهوديّ في الختان وقبول الدخلاء" من دون أن يتأثّروا به.

            هذه الفرضيّة (أعني: المقابلة بين المعموديّة والختان) يرجّحها كثيرًا الأب نقولا (أفاناسييف). غير أنّه يؤكّد، من جهة ثانية، عدم انسجام الختان مع سرّ المعموديّة، لأنّ الختان في الكنيسة، كما يقول: "يكون نكرانًا للجلجلة وقيامة المسيح، أي يكون نكرانًا للكنيسة نفسها". ذلك بأنّه لا يعطي أحدًا العضويّة في ملكوت الله، هذا الذي أتى، بكلّ قوّة، في المسيح يسوع. ويعتبر (الأب نقولا)، تاليًا، أنّ لفظة "مقدّسون"، التي أطلقها بولس الرسول على الأطفال في رسالته الأولى إلى كورنثوس، إذ قال: "وأمّا (أولادكم) الآن فهم مقدّسون" (7: 14)، تعني أنّهم "معمّدون". وهذا ما يقول به، أيضًا، العلاّمة الكبير أوسكار كولمن الذي يُؤكّد أنّ عدم معموديّة الأطفال هي التي تحتاج إلى برهان كتابيّ وليس معموديّتهم. وممّا لا شكّ فيه، تاليًا، أنّ العديد من المفسرّين رأوا أنّ كلام السيّد في إنجيل متّى: "دعوا الأطفال يأتون إليّ ولا تمنعوهم، لأنّ لمثل هؤلاء ملكوت السموات" (19: 14) يتعلّق بالمعموديّة المبكرة. ونبدي، أيضًا، أنّه في العصور اللاحقة للعصر الرسوليّ ما كانت هناك أيّة مشكلة حيال إتمام معموديّة الأطفال، بل الآراء تباينت حصرًا حول السنّ الذي يؤتى فيها بالأطفال إلى المعموديّة. ففي أيّام قبريانوس القرطاجيّ كانوا يقولون إنّه لا يجوز إرجاء المعموديّة إلى ما بعد اليوم الثامن، وهذا ما أثبته الغرب المسيحيّ، بينما ذهب الشرق إلى أنّ المعموديّة تُكمّل في اليوم الأربعين.

            أمّا الفهم، فما لا شكّ فيه أنّه مطلوب دائمًا، وخصوصًا ممّن له القدرة عليه. بيد أنّ عدم فهم الأطفال للأسرار المقدّسة ليس عقبة في طريق تقدّمهم إلى الله. وذلك بأنّ الله، الذي خلّص العالم بمحبّته ومشيئته الحرّة، أعطانا كلّنا، بما فيه الأطفال، مجّانًا، ميراثَ الحياة الأبديّة. فالفهم، على أهمّيّته، لا يزيد شيئًا على إرادة الله الحرّة والمخلّصة، هذا قرارُه الشخصيّ الذي أتمّه على الصليب من دون أن يرجع إلى أحد أو يطلب شيئًا من أحد. ولا شكّ، أيضًا، في أنّ الكنيسة المقدّسة، فيما تُعمدّ الأطفال، تشترط لإتمام السرّ أن يكون هنالك "أمل وطيد بأن يُنَشَّأ (...) الطفل على الإيمان الأرثوذكسيّ" (راجع: "الدليل الرعائيّ إلى الأسرار"، صفحة 35). وهذا يفترض أن يكون أبوه أرثوذكسيًّا وأمّه مسيحيّة، وأن يُختار له كفيل "منتميًا إلى الكنيسة الأرثوذكسيّة، عارفًا بالمبادئ الإيمانيّة الأساسيّة، وأن يكون ذا سيرة تليق بالإيمان المسيحيّ" (المرجع ذاته، صفحة 37). وهذا كلّه على رجاء أن يبقى المعمّد محافظًا على إيمانه بالله المثلّث الأقانيم ليعمق حبّه للذي أحبّه أوّلاً، ويُخلص لمن اختاره للحياة الجديدة.

            محبّة الله التي تشمل الأطفال والبالغين هي عقيدتنا الوحيدة. فكلّ ما يقال أو يعمل في الكنيسة هو ترجمة لهذه المحبّة المخلّصة التي لا تمنع أحدًا صغيرًا كان أو كبيرًا من ميراث الحياة الأبديّة.

شارك!

جميع الحقوق محفوظة، 2023
Skip to content