12أبريل

سرّ الزيت المقدّس

            هو واحد من الأسرار الكنسيّة التي تتيح لجميع الناس أن يلتقوا الله كمخلّص في كلّ مراحل حياتهم، وتعينهم على أن يحقّقوا، في ذواتهم، كمال صورة ابن الله الوحيد. فالإنسان، الذي يصبح، على سبيل المثال، ابنًا لله بالمعموديّة، يبقى مدعوًّا إلى أن يتبع السيّد، ويكون معه في كلّ لحظات حياته: في طفولته وشيخوخته، في فرحه وحزنه، في عافيته وإذا أثقلته الهموم أو أرهقته الأمراض... في هذا الإطار، تمنح الكنيسة سرّ الزيت المقدّس للمؤمنين للدلالة على حضور الله الحيّ والمحيي مع شعبه المنتظرِ عونَه ورحمته، وهو يختصّ بكلّ مرض مهما كان صعبًا، ويقام على رجاء الشفاء دائمًا.

            كثيرة هي الشهادات التي تدلّ على استخدام هذا السرّ منذ العصر الرسوليّ. فالربّ يسوع، الذي شفى "جميع السقماء المصابين بأمراض وأوجاع مختلفة والمجانين والمصروعين والمفلوجين..." (متّى 4: 24؛ مرقس 1: 34، 3: 10- 11)، هو الذي سلّم إلى رسله، وتاليًا إلى كنيسته، السلطانَ، ليطردوا الأرواح الشريرة، ويشفوا كلّ مَنْ فيه داء (وأخرج الرسل "شياطين كثيرة ودهنوا بالزيت مرضى كثيرين فشفوهم"، مرقس 6: 13؛ راجع أيضًا: رسالة يعقوب الجامعة: "أعَلَى أحد بينكم مشقّات فليصلِّ. أمسرور أحد فليرتّل. أمريض أحد بينكم فليدعُ شيوخ الكنيسة فيصلّوا عليه ويدهنوه بزيت باسم الربّ، وصلاة الإيمان تشفي المريض، والربّ يقيمه، وإن كان قد فعل خطيئة، تُغفر له"، 5: 13- 15). ونرى أنّ استعمال الزيت في الصلاة على المرضى بات أمرًا شائعًا. فالكتاب المعروف بـ"التقليد الرسوليّ" (بداءة القرن الثالث) يحتوي على نصّ لتقديس الزيت، وهو: "أيّها الربّ إلهنا، أنت قدّس هذا الزيت واغرس فيه موهبة التقديس للذين يوزّعونه والذين يقبلونه. به أشرت أن يُمسح الملوك والكهنة والأنبياء في القديم. هَبْنا، نحن أيضًا، إذ نُمْسَح به، صحّةَ النفس والجسد". ويذكر السرَّ آباءٌ كثيرون، منهم: أوريجانس، وأفسابيوس أسقف قيصريّة، وكيرلّس الإسكندريّ، والقدّيس يوحنّا الذهبيّ الفم الذي يوصي باستخدام الزيت المقدّس في حالات المرض كافّة، وبعدم حصره في حالات المرض القصوى إذ يشرف المريض على الموت... فالسرّ ليس هو سرّ "المسحة الأخيرة"، كما هو شائع هنا وثمّة، بل يتقبّله مَنْ لم يقطع رجاءه بخلاص المسيح. هذه الشهادات - وغيرها - دلالة قاطعة على أنّ سرّ الزيت المقدّس كان قد انتشر انتشارًا واسعًا منذ وقت مبكر، وأنّه معروف وممارس في الكنائس كافّة.

            ينفي التراث - كما لاحظنا - أيَّ تفريق بين الجسد والروح. فالإنسان كائن واحد غير منقسم، ولا توجد، تاليًا، حدود واضحة بين أمراض جسده وأمراض نفسه. ولذلك، فإنّ صلاة تقديس الزيت تمتاز بأنّها تقام، بآنٍ، من أجل شفاء الجسد ومغفرةِ الخطايا التي هي الشفاء الحقيقيّ. ففي قوّة الصلاة التي تتلى من أجل المريض المسمّى باسمه (لأنّ سرّ الزيت، كما هي الأسرار كلّها، شخصيٌّ) وقداسةِ المسحة، يُدعى الإنسان إلى أن يعي أنّ نعمة الروح القدس قادرة على أن تخرجه من جبّ الفساد (الخطيئة)، وأن تشفيه من كلّ ألم أو ضعف. غير أنّ هذا لا يعني أنّ المؤمن يستطيع أن يستغني عن ممارسة سرّ التوبة باقتباله مسحة الزيت، "فنحن، حسب قول بعض الآباء، ننال بسرّ المسحة قوّة روحيّة، فتُغفر خطايانا التي نسيناها ولم نتمكّن من الاعتراف بها. إلاّ أنّ أهمّيّتها الأولى تبقى في الصلاة من أجل صحّة الجسد. لذلك تربط الكنيسة الأرثوذكسيّة بين هذين السرّين (سرّ الزيت وسرّ التوبة)، وتحثّ الذين يُقام سرُّ المسحة من أجلهم، على الاعتراف أيضًا" (راجع: زاد الأرثوذكسيّة، للأب أنطونيوس آليفيزوبولوس، صفحة 228).

            لا بدّ من القول إنّ الكنيسة الأرثوذكسيّة لا تؤمن بأنّ سرّ الزيت المقدّس يجلب الصحّة للمريض بطريقة آليّة أو سِحْريّة. وذلك بأنّه يُقام "باسم الربّ" وقوّة "صلاة الإيمان"، كما ورد في رسالة يعقوب الرسول. وهذا يعني أنّ الربّ، الذي يسمع ويستجيب بحسب محبّته وحكمته الأزليّة، هو الذي - من دون أن نستبعد إمكان الشفاء الجسديّ - يعطي الملتمسين عطفَهُ ما يعزّيهم وينفع لخلاصهم (راجع: حادثة شفاء المخلّع الواردة في إنجيل مرقس 2: 1- 12). غاية سرّ المسحة هي شفاء المريض، أو أن يكتشف، على الأقلّ، أنّه محبوب الله والجماعةِ الكنسيّة المشاركة في الصلاة من أجله. فإذا لم يجد المريض عافيته الجسديّة هنا على الأرض، تدعوه الخدمة إلى أن يطلب الرحمة عن خطاياه، ليُنْشِدَ القيامةَ في الحياة الأبديّة. على العموم، لا تحلّ الكنيسةُ مكان الطبّ وعلومه. لكنّها تعمل، ليرى أعضاؤها أنّ محبّة الله تكتنفهم، وهي الحياة ذاتها، وترفعهم، ليقولوا بثقة مع بولس الرسول: "إنّي لواثق بأنّه لا موت ولا حياة... لا حاضر ولا مستقبل... ولا خليقة أخرى أيّة كانت، تقدر على أن تفصلنا عن محبّة الله التي في المسيح يسوع" (رومية 8: 38- 39).

            يذكر قانون الخدمة أنّ إتمام سرّ الزيت المقدّس يجري في الكنيسة وسط الجماعة المخلصة (في حال تعذّر حضور المريض إلى الكنيسة يؤدّى السرّ في البيت)، ويخدمه سبعة كهنة يمثّلون الكنيسة الجامعة الرسوليّة. بيد أنّ الكنيسة أجازت أن يقيم الخدمة عدد أقلّ من الكهنة، ولا تمنع من أن يتمّها كاهن واحد. تُقرأ في الخدمة سبع رسائل وسبعة أناجيل هي تسبحة شكر لله تُظهر محبّته التي تشفي المرضى والخطأة، وتدلّ على رحمته التي سبغها علينا بيسوع المسيح ربّنا. وتتلى، أيضًا، سبعة أفاشين لمباركة الزيت، وفي كلّ مرة يمسح الكاهنُ المؤمنَ بالزيت سبع مرّات للدلالة على أنّ الكنيسة بواسطة هذا السرّ تعبّر عن حنانها الكامل للمريض. والجدير بالذكر أنّ لفظة "رحمة"، في اليونانيّة، هي eleos، ولفظة زيت هي elaion، وتفيد elaion، أيضًا، معنى "المسحة". وهذا يدلّنا على أنّ الزيت، بالنسبة إلى تقليد العهد الجديد، أصبح، طبيعيًّا، رمزًا لرحمة الربّ.

            تقيم الكنيسة حاليًّا خدمة هذا السرّ مساء يوم الأربعاء المقدَّس، غير أنّها ترجو أن تستعاد ممارستُهُ وأن يتقبّله كلّ مريض في كلّ وقت. هو سرّ التعزية الكبرى الذي يعطينا إيّاها الروح القدس، لنثبت في الطهر الذي هو فرح المسيح.

شارك!

جميع الحقوق محفوظة، 2023
Skip to content