24يونيو

أقرباء يسوع

            هم عديدون، يذكرهم العهد الجديد في بدء خدمة يسوع كأعداء للبشارة، ويرصفهم مع الكتبة والفريسيّين، فيظهرهم تارةً أنّهم يشوّهون سِمعَة يسوع ("المختلّ"، كما ينعتونه، مرقس 3: 21)، وطورًا يلاحقونه وبغيتهم أن يوقفوه عن إعلان "مشيئة الله". يسمّي مرقس البشير، في إنجيله، بعضًا من هؤلاء الأقرباء، فينقل عن لسان أهل الناصرة قولَهم: "أليس هذا هو النجّار ابن مريم وأخا يعقوب ويوسي ويهوذا وسمعان، أوليست أخواته ههنا عندنا؟" (6: 3، راجع: 3: 31 وقابل مع: متّى 12: 46، 13: 55 و56 ولوقا 8: 19).

            يصرّ بعض الناس، وبخاصّة الذين تأثّروا بمعتقدات غريبة عن التراث الحيّ، على تفسير عبارة "أخوة يسوع"، على أنّها تعني أخوة له من مريم. وذلك بأنّهم قرأوا الكلمات المستعملة في الآيات المذكورة آنفًا انطلاقًا من مفاهيم آنيّة، وأهملوا الإطار التاريخيّ والحضاريّ الذي نشأت فيه. ويحيكون قصصًا وهميّة عارية عن الصحة ينقضها ببساطة مَنْ وعى أنّ الأناجيل بشارات موضوعها حصرًا خلاص العالم الذي أتمّه ابن الله المتجسّد بموته على الصليب، وليست هي بحوثًا في تاريخ عائلة يسوع وعلاقة أمّه بيوسف، الأمر الذي تذكره الأناجيل بِما يخدم حقيقة التجسّد الخلاصيّة وقبول الأوّلين لها.

            وواقع الحال أنّ كلمة "أخ" (أو أخت)، لا تدلّ، في حضارة الكتاب المقدّس، كما في بلادنا، على أولاد الأمّ الواحدة وحسب، بل، أيضًا، على بعض الأقرباء مثل أولاد العمّ والخال أو أبناء العشيرة الواحدة. ففي كتاب التكوين، يقول إبراهيم للوط ابن أخيه: "لا تكن مخاصمة بيني وبينك وبين رعاتي ورعاتك، لأنّنا نحن أَخَوَان" (13: 8)، وفي 14: 14 نقرأ: "لما سمع أبرام (إبراهيم) أنّ أخاه (أي: ابن أخيه) سُبِيَ جرَّ غلمانه المتمرّنين...". فإبراهيم، كما لاحظنا، هو عمّ لوط وهو يدعوه، في أكثر من موضع، أخاه، ويدافع عنه كأخ (راجع أيضًا: 14: 16). وفي الكتاب ذاته، نقرأ أنّ يعقوب أخبر راحيل "أنّه أخو أبيها"، وهو ابن أخته (29: 15؛ راجع أيضًا: لاويّين 10: 4؛ 1أخبار الأيّام 23: 22). وإذا عدنا إلى بشارة مرقس (الإصحاح 6) نجد أنّ يوسي ويعقوب اللذين ذكرهما الإنجيليّ أنّهما أَخَوَان ليسوع، يورد، هو نفسه، في آخر إنجيله، أنّهما من أُمّين غير مريم أمّ يسوع: "مريم أمّ يوسي" (15: 47)، "ومريم أمّ يعقوب" (16: 1). والأمر ذاته نجده في إنجيل متّى، حيث نقرأ في (13: 55)، أنّ يعقوب ويوسي هما من أخوة يسوع، ونعرف في (27: 56) أنّهما من أمٍّ أخرى، وهي مريم زوجة كلاوبا، كما يوضح إنجيليّ آخر (يوحنّا 19: 25). وهكذا نتبيّن أنّ هؤلاء "الأخوة" هم، بالحقيقة، أقرباء ليسوع وليس أخوته من مريم، ولعلّهم كانوا (أو بعضهم) أولادًا ليوسف من زواج سابق، كما قَبِلَ آباء كثيرون، منهم: كليمنضس الإسكندريّ، وأوريجانس، وأفسابيوس القيصريّ، وأبيفانيوس أسقف سلاميس، وأمبروسيوس أسقف ميلانو وغيرهم.

            والجدير بالذكر أنّ الأناجيل المقدّسة ذكرت، مرارًا، أنّ مريم هي أمّ يسوع وأنّ يسوع هو ابن مريم، ولكنّها لم تذكر، قطّ، أنّ أحد المدعوّين أخوة يسوع هو ابن مريم والدة الإله أو أنّها هي أمّ أحدهم. وهذا يدلّ على أنّ يسوع هو ابن مريم الوحيد (راجع: يوحنّا 2: 1؛ أعمال الرسل 1: 14).

            يعرّف يوحنّا كَرافيذوبولس، في تفسيره إنجيل مرقس (عرّبه الأرشمندريت أفرام، ونشرته منشورات النّور)، عن يعقوب ويوسي ويهوذا وسمعان الذين هم "أشخاص يحملون أسماء آبائيّة"، بقوله: "يعقوب العمود المعروف في كنيسة أورشليم، يوسي الاسم اليونانيّ ليوسف، يهوذا الذي عاش أحفاده في زمن دومتيانوس"، ويؤكّد أنّهم كانوا "معروفين كأقرباء للربّ (أنظر: التاريخ الكنسيّ لأفسابيوس 3، 9)"، ويتابع: "وسمعان خليفة يعقوب في أورشليم (الكتاب ذاته 3، 11)" (صفحة 112). وهذا، من جهة، يدلّنا، أيضًا، على أنّ هؤلاء الأشخاص المدعوّين أخوة يسوع هم، بالحقيقة، أقرباء له (وليس أخوته من مريم)، ويفيدنا، من جهة ثانية، أنّ الذين كانوا في البدء أعداءه، آمنوا برسالته بعد قيامته وصعوده إلى السماء، وباتت لهم، تاليًا، مكانة عظمى في الكنيسة الأولى.

            لا شكّ في أنّ يسوع بموته على الصليب أصبح "بكرًا لأخوة كثيرين" (رومية 8: 29)، وهو نفسه يدعو تلاميذه، بعد قيامته، أخوته (يوحنّا 20: 17؛ متّى 28: 10). وقد أرسى قاعدة البنوّة لله في قبوله والإيمان به ربًّا ومخلّصًا. نقرأ في الرسالة إلى العبرانيّين أنّ الذين تقدّسوا بالمعموديّة "لا يستحي (يسوع) أن يدعوهم أخوة" (2: 11). هذه هي أمنية الأنبياء والأبرار الذين تشوّفوا قديمًا إلى أخوّة شاملة. وقد أصبحت حقيقة في المسيح يسوع الإله المتجسّد الذي به تبنّانا الله الآب، وأعطانا شركة ميراث الحياة الأبديّة.

            هذه هي القرابة الحقيقية ليسوع التي أعدّها الله للذين يسمعون كلمة الله، ويتمّونها بالطاعة (مرقس 3: 35).

شارك!

جميع الحقوق محفوظة، 2023
Skip to content