يسعدني أن يُعطى لي المجال للتعبير عن بعض ما جال في خاطري عند قراءة مسوّدة هذا الكتاب الجديد لقدس الأب إيليّا متري، وذلك لأسباب ثلاثة:
أوّلاً، لأنّني معجب بكلّ ما كتبه الأب إيليّا، حتّى الآن، وبالنمط الجديد الذي أدخله في أدبيّاتنا الكنسيّة، في نقل الكلمة بكلّ حدّتها واشتعالها، انطلاقًا من واقع الناس المعاش، الناس جميعًا، مؤمنين كانوا أو غير مبالين بإيمانهم. هكذا كان يتكلّم الربّ الذي أخذ من واقع أرض فلسطين وعادات أهلها منطلقًا لنقل رسالته الكلّيّة جِدّتها. فكان يسائلهم وعاداتهم، ليسعى إلى تغييرهم من الداخل. إذ ما من تغيير إن لم ينكسر القلب، ويصغِ.
ثانيًا، لأنّ موضوع الكتاب المعلَن هو بطرس الرسول، وهو شفيعي في المعموديّة. في الواقع، لست أعلم لِمَ اختار لي والداي بطرسَ شفيعًا. لكنّني أعلم أنّني كبرت على شعور، لم يفارقني يومًا، بأنّ ثمّة صلةً خاصّةً تربطني بهذا الرسول. لا أعني، بهذه الصلة، تجلّياته المدهشة التي تُثلَج النفس بها، بل، بعيدًا من كلّ تواضع مزيّف، سقطاته وطبعه "المتهوّر".
ثالثًا، لأنّ محور الكتاب، على الرغم من عنوانه، هو وجه أدرك بطرس أنّه الوجه الذي أمامه يُزاح كلّ وجه أو يتكوّن كلّ وجه، أي وجه يسوع. ولا أغالي إن قلت إنّ طريقة الأب إيليّا، في الكلام على الربّ يسوع، تذكّرني بِمَنْ كان له تأثير بالغ في جعلنا نكتشف هذا الوجه المحبّب وقربه العجيب من كلّ إنسان، أعني المثلّث الرحمة الأرشمندريت ليف جيلله. كان الأب ليف ينطلق من حادثة بسيطة في حياة السيّد على الأرض، لينقلنا، بلغته السهلة وأسلوبه القريب المنال الواقعيّ، إلى عمق العلاقة الحميمة التي يجب أن تربطنا بيسوع الآن، وفي كلّ آن. كنت تشعر، عندما تطالع ما كتبه أو تسمعه يتكلّم، بأنّك انتقلت عبر الزمان والمكان، لترافق يسوع والتلاميذ على طرق فلسطين، وتصغي إليه يخاطب الجموع، فتفتح أذنيك جيّدًا، لربّما يُنعم عليك بأن يقول لك أنت شيئًا خاصًّا، ويعطيك ما يبلسم جراحاتك.
من الواضح أنّ الأب إيليّا يتّبع، في هذا الكتاب، هذا النهج. وحسنًا فعل. وذلك بأنّنا نحتاج، اليوم، أكثر من أيّ وقت مضى، إلى أن ننفض الغبار المتراكم على ممارساتنا التي كثيرًا ما تقف عائقًا أمام اكتشافنا وجه يسوع الدامي والمجيد في آن، يسوع ربّنا الذي يريد أن يقاربنا، ويكلّمنا، فيما نحن غالبًا ما نتلهّى بالقشور. أجل، بالقشور، وإن أعطيناها أسماء وألقابًا طنّانةً رنّانة، وقلنا إنّها تعبّر عن تقليدنا. ولا تقليد حيّ لنا إن غفلنا عن هذا الإله الحيّ، الإله-الإنسان الذي أتى إلينا، ليواجهنا، ويحطّم كلّ حاجز ترفعه خطايانا بيننا وبينه.
هذا لا يعني أنّ قراءة الأب إيليّا، للنصوص الكتابيّة المتعلّقة ببطرس الرسول، تسهو عمّا توصّل إليه خيرة علماء البحث الكتابيّ الحديث. فهو، في معرض كلامه، إن رأى أنّ هذا البحث يفيده في ما يقصده، يذكره، أو يمرّ عليه مرور الكرام. هذا مع العلم أنّ كثيرين سواه يركّزون على مثل هذه القراءة "العلميّة"، التاريخيّة، وبعضهم يغالون فيها، إذ في سعيهم إلى استنباط حقيقة النصوص، يلهونك، في بعض الأحيان، عن الأساس الذي هو يسوع وحده. لا أريد التقليل من أهمّيّة التفسير العلميّ الذي يساعد، في أغلب الأحيان، على فهمٍ أفضل لقصد الكاتب وإيمان الذين وجّه كتابه إليهم. الكتاب المقدّس هو نتاج تفاعل بين الله والبشر. الفعل الإلهيّ والمساهمة البشريّة لا ينفصلان في أيٍّ من نصوصه. ولا بدّ من السعي إلى معرفة فضلى لكلّ منهما للتوصّل إلى كشف القصد الإلهيّ في يسوع المسيح ربّنا، كلمة الله الحيّ.
كلام الله يبقى فعلاً دائمًا، يبقى يعاصرنا. إنّه موجّه إلى البشريّة جمعاء، في كلّ زمان ومكان. لذلك، علينا أن نتّكئ عليه في كلّ يوم، ونُخلص في طاعته. وبما أنّه وصل إلينا عبر كلام بشريّ، لا بدّ لنا من أن نفهم كلام الله كما فهمه ناقله إلينا وما أراد أن نفهمه. علينا، إذًا، دائمًا، أن نسمع الكلمة الإلهيّة كما سمعها أولئك الناس الذين رافقوا السيّد في تجواله على الأرض. من هنا، أهمّيّة التركيز، في هذا الكتاب، على أحد هؤلاء السامعين المقرّبين إلى الربّ، بطرس الرسول، وتفاعله مع الكلمة انطلاقًا من طبعه ومزاجه، وانتهائه، عبر مخاض عسير، إلى الخضوع لها. في الكتاب، يُكشَف الإلهيّ عبر البشريّ، ويعبّر البشريّ عن الإلهيّ.
بعد أن نحاكي الأوّلين في فهمهم النصوص الكتابيّة، يبقى علينا، إذًا، في أيّ زمان أو مكان وضعنا الربّ فيه، أن نتعلّم أن نطبّق هذا الكلام. هذا ما فعله الأب إيليّا، فنبّه، في غير صفحة من صفحات كتابه، إلى أنّ الكلام الموجّه إلينا يطلب أن نحيا بموجبه "الآن وهنا".
إذًا، ليس الكتاب عن بطرس الرسول. قال الأب إيليّا، في كتابه، إنّ بطرس "مثلنا في كلّ شيء"، أي ليس هو شخصًا "خلقه الله وكسر القالب" (التمهيد). بطرس يشبهنا في خياناتنا وضعفاتنا. لكنّه آمن، فتاب إلى ربّه يسوع الذي يجدّدنا ويقوّينا، وتبعه. وها هو يدعونا إلى أن نرافقه في طريق السيّد، "بل يرجونا أن نمشي في إثره" (التمهيد)، و"نُدخل (الربّ) بيوتنا وقلوبنا" (صفحة 26). بطرس مجرّد مرشد ودليل، كما سائر القدّيسين وَمَنْ يحبّون الله.
محور الكتاب هو، إذًا، يسوع، وقصّة كلّ واحد منّا معه. يسأل يسوع كلاًّ منّا: "يا بنيّ، أتحبّني؟"، كما سأل تلاميذه الأوّلين والذين دعاهم في غير جيل. هو هنا، "يسوع دائمًا هنا" (صفحة 21)، يستعطي محبّتنا. فهل سنستمرّ نتلهّى بالقشور، أو سنرتفع إلى مستوى محبّته؟
هذا الكتاب يسعى إلى الإجابة عن مثل هذا السؤال. إنّه يلخّص الحياة المسيحيّة كلّها، ويحضّ مَنْ يريد أن يكون مسيحيًّا (والمسيحيّ الحقيقيّ هو في صيرورة مستمرّة دائمًا)، على أن يطيع كلام الربّ من دون تذمّر أو تردّد. ويصف له سبيل هذه الطاعة بقوله إنّ هذا، الذي "لا يقوم إلاّ على أن نعرّي العقل" (صفحة 22) أمام يسوع، يفترض، تاليًا، أن نسجد له، لنرجو أن تنفتح لنا السماء، ونُعطى أن نُشاهد ما لا يسوغ النطق به. حينئذٍ، نُدعى إلى أن نكون رسلاً، لـ"نخدم الربّ والناس جميعًا" (صفحة 28). فيصبح كلّ واحد منّا، بدوره، مرشدًا الآخرين إلى الربّ، "يواكب رغبة (الناس) في رؤيته" (صفحة 32). ويذكّر بأنّ الربّ يدعونا إلى أن نثبّت نظرنا إلى وجهه، لـ"نبقى أمامه جددًا دائمًا" (صفحة 35)، ونسهر، صباح مساء، لكيلا "ينتفي حضوره من عينينا" (صفحة 39). فـ"جدّتنا أن نؤمن بأنّ المسيح هو ابن الله الذي أتى إلى العالم، ليكون كلّ واحد منّا على إيمان الرسل جميعًا، ونخدم مشيئته في عالم يجب أن يحفظ أهله الجواب (أنت المسيح ابن الله الحيّ) الذي فيه نجاتهم، ويحيوا به" (صفحة 44).
لكنّ اتّباع يسوع ليس هو "نزهة تسلية" (صفحة 47). "ما من تلميذ أسمى من معلّمه" (لوقا 6: 40). "الربّ كتب مصيرنا بدمه" (صفحة 48). اتّباعه يفترض أن نتمثّل به. نفرح بالأعراس التي يحضرها. نرافق سيره في بساتين هذا العالم وأزقّته. نجلس معه. نسامره في بيوت أحبّته والزناة. ونساعده على البحث عَمَّنْ لا يعرفونه، لنبشّرهم بمحبّته. ولكن، علينا، أيضًا، أن نكون مستعدّين، دومًا، لأن نصل، في سيرنا معه، إلى الصليب الذي خلّصنا عليه، وننطلق منه دائمًا إلى قيامة. هذا يعطينا أن نسمعه يتمتم لكلٍّ منّا في الطريق: "أقمتك لتحبّ فحسب. أقمتك لتعطف على إخوتك جميعًا، مَنْ تراهم يستحقّون وَمَنْ لا، كما عطفت عليك" (صفحة 68). "مَنْ يتّبع المسيح، لا يعرقل حياته بأفكار الناس"، بل "يمشي، بثقة التلميذ، وراء المعلّم الذي به "فُتح طريق القيامة من بين الأموات لكلّ جسد"" (صفحة 48). يعزّينا الربّ في الطريق. يحزن لأحزاننا وهفواتنا، ويبكي معنا، كما فعل مع أحبّائه مرارًا. يمدّ يده دومًا إلينا، لينتشلنا من الحفر التي لا تزال خطايانا توقعنا فيها. أن نعي أنّ هذه اليد ممدودة إلينا أبدًا، ضمانُ خلاصنا. أن نعي أنّها ممدودة أبدًا، أي أن ندرك أنّنا، في حضرة الله دائمًا، يمكننا الخروج في أيّ لحظة، لنركن إليه، إذ هو، وحده، الصخرة والطريق والحياة، هو مَنْ "أحبّ العالم بجنون" (صفحة 67). هذا الرجوع إليه يؤهّلنا لأن نتخلّق بأخلاقه، فنتّخذ "فقر يسوع نهج حياة وأساس كلّ خدمة" (صفحة 63). يذكّرنا الأب إيليّا بأنّ النجاة تكمن في "اقتدائي بمحبّة إله لا مثيل لمحبّته، أي بنزولي عند أقدام إخوتي، أيًّا كانوا... حتّى أمام مَنْ نحسبهم لا ينفعون شيئًا" (صفحة 80)، كما فعل هو مع تلاميذه بعد العشاء. يريد الربّ أن "يجعلنا معه ومع أحبّائه في آن" (صفحة 82). يريدنا أن نطيعه، نتوب إليه، نحبّ ونخدم.
ينتهي الكتاب بدعوتنا إلى هذا التمثّل الفذّ بما خبره، فجر يوم القيامة، بطرس والتلميذ الآخر "الذي كان يسوع يحبّه"، "ليعبّد لنا أن تكون حياتنا سيرًا سريعًا باتّجاه المعلّم الحيّ الذي ينتظرنا، ليهبنا ما لا يُنطق به، ونبقى في طَفرِ التبليغ أنّه حيّ" (صفحة 100).
رجائي أن تهدينا قراءة هذا الكتاب الجديد إلى استنباط وجه يسوع في كتابه العزيز، والاستفادة من كلّ شاردة وواردة فيه لاكتشافه وجعله، في حياتنا، الكلّ في الكلّ.