13فبراير

مصير الذين في الخارج

            ثمّة إخوة، يحيون بيننا، يشغلهم أن يسألوا عن مصير الذين في الخارج، أي مَنْ لم ينتسبوا إلى كنيسة الله في المعموديّة. وهذا السؤال، المشروع طبعًا، يدفع بعضًا إلى طرحه قلقٌ صادقٌ، وآخرين أسبابٌ، إن دلّت على شيء، فإنّما على عدم وعيهم مسؤوليّتهم عن مدّ خلاص الله في العالم.

            سندعم، في هذه السطور، قلق الصادقين. وهذا، بدءًا، يلزمنا أن نؤكّد أنّ التعليم الكنسيّ لا يُقارَب على سوى أنّ ما قيل إلى الجماعات الكنسيّة إنّما قيل إلى كلّ عضو فيها. فإذا أخذْنا العهد الجديد مثلاً، فالثابت أنّ أسفاره وجّهت إلى مؤمنين يلتقون في سرّ الشكر، أي يعتنقون الربّ يسوع دينًا، ويحيون، معًا، في كنف حبّه ورعايته. وإن قلنا: قيل إلى كلّ عضو فيها، فلا نعني أنّ "ما سلِّم إلى المؤمنين تامًّا" لا يعني سواهم. بلى، يعني. لكنّه لا يعني أنّ ما أقبل، أنا المسيحيّ، أن يلزمني يجب، بالضرورة، أن يلزم سواي. فللناس، في الأرض، حرّيّة برأهم الله عليها. وهذه الحرّيّة لا تسمح لي بأن أستعير عينَيْ أحد إن قرأت إيماني، أو أذنَيْ غيري، إن أُلقيت على مسمعي كلمات الحياة، لأعلّي هذا، وأخفض ذاك.

            بهذا المعنى، إذا قرأ مسيحيّ قول الربّ: "مَنْ آمن واعتمد، يخلص. وَمَنْ لم يؤمن، يُحكم عليه" (مرقس 16: 16)، يعتبر، أو هذا ما يجب، أنّ هذا القول الإلهيّ يخصّه دائمًا. وإن كان هذا القول، وفق ما قلناه أعلاه، وُجِّهَ إلى أشخاص تجمعهم عبادةُ كنيستهم، فأمرٌ لا يسمح لنا بأن نطلق العنان لأفكارنا بحثًا عَمَّنْ يدينهم، أي مَنْ لم ينالوا نعمة المعموديّة، بل يحضّنا، فيما نعي أنّنا تحت حكم الله، على أن نبحث عمّا يقتضيه. وهذا يمكن أن نكتشفه في سياقه. فالربّ هيّأ ما نقلناه، هنا، بقوله لتلاميذه: "اذهبوا في العالم كلّه، وأعلنوا البشارة إلى الخلق أجمعين" (الآية الـ15). وهكذا يكون المقتضى أنّ الجماعة المؤمنة، الملتقية في سرّ الشكر، من مسؤوليّتها الملزمة أن يقلقها أن يعرف اللهَ كلُّ مَنْ يتنفّس على هذه البسيطة.

            لا نريد أن نثير مؤمنًا ورعًا. غير أنّ الآية عينها تفرض علينا أن نلاحظ أنّ الربّ لم يقل: "مَنْ اعتمد، يضمن خلاصًا أبديًّا". وهذه الملاحظة لا نريد بها أن نقلّل من قيمة المعموديّة، حاشا!، بل أن نقرأ ما نقلناه وفق مقاصده، لئلاّ نسبغ عليه ما لا يتحمّله. وما يبدو ثابتًا أنّ الربّ، بقوله، يريد من كلّ معمَّد أن يحيا كما لو أنّه خرج من جرن معموديّته الآن. ولذلك كرّر ذكر الإيمان. وإنّما كرّر ذكره، لنعرف جميعًا أنّ المعموديّة، التي نسبتنا إلى خلاص الله، تفترض أن "نبقى فيها"، بمعنى أن نوافق تكليفها، أي أن نشعّ لا سيّما في محيطنا. إن كنّا نعرف، فيجب ألاّ ننسى أنّ المعموديّة، إن لم نجتهد في موافقة تكليفها، فـ"قد تظلّ ماءً" (المطران جورج (خضر)، لو حكيت مسرى الطفولة، صفحة 33). فالمسيحيّ لا يليق به أن يعتبر أنّه، لكون أبويه عمَّداه طفلاً، قد ضمن خلاص الله ضمانًا أبديًّا، وأنّ الذين هم في الخارج واقعون، حكمًا، تحت قضائه لعنةً ودمارًا. هذا، إن عنى شيئًا، فإنّما يعني هروبًا من تكليف المعموديّة، أي إسقاطًا على أمور الحقّ أفكارًا غريبةً تأسرنا في فوضى الكسل الذي يُظهرنا أنّنا لا نعي قيمة ما نلناه.

            إذًا، لا يسأل المسيحيّ الواعي عن مصير الذين في الخارج، ليؤكّد خلاصه، أو ليستطلع أحوال غيره بترّفعٍ يعجّ بالإدانة. فالسؤال عن مصير الآخرين، ليكون مشروعًا، يجب، لزامًا، أن يتضمّن قلقًا واعيًا أنّ خلاصنا صعب، بل مستحيل، إن لم نسعَ إلى هداية الناس، كلّ الناس، إلى الطاعة.

            عندما كتب الرسول عن: "هداية الوثنيّين إلى الطاعة" (رومية 15: 18)، كان يريد أن يعرف المسيحيّون أنّ كلّ إنسان قابل لأن يطيع. وما اقتبسناه هنا، كتبه في سياق كلامه على الجماعة المؤمنة التي لا تخلو من ضعفاء. وما قاله لهم عن رعاية المؤمن الضعيف، ومنه مثلاً: "مَنْ أنت، لتدين خادم غيرك؟ أثبت أم سقط، فهذا أمر يعود إلى سيّده. وإنّه سيثبت، لأنّ الربّ قادر على تثبيته" (رومية 14: 4)، يمكن أن نستشرف فيه ما تقتضيه خدمة غير المسيحيّين. فإن كان ثمّة مسيحيّون ضعفاء يلزمني الربّ أن أرعاهم كما عينيَّ، فهذا عينه ما عليَّ أن أفعله مع كلّ ضعيف في الأرض، سواء علم بضعفه وأقرّ به أو لم يعلم ويقرّ، أي أن أسعى، في غير وقت، إلى "هديه إلى الطاعة". ويجب أن ننتبه إلى أنّ بولس لم يقل: "هداية الوثنيّين إلى الله"، (على أنّه لو قال، لكان معنى ما يريده كاملاً)، بل اختار أن يقول "إلى الطاعة". ويعنينا أن نرى أنّه، في هذا الاختيار، أراد أن يؤكّد، ببلاغته المعهودة، أنّ الله قادر، بنعمه، على أن يخلع عن كلّ إنسان ثوب البعد، ويلبسه "طاعة الإيمان" (رومية 16: 26)، أي أن يجعله "بلا لوم ولا شائبة وابنًا له بلا عيب" (فيلبّي 2: 15). وهذا، واقعيًّا، يبدي كلّ إنسان، أيًّا يكن معتقده أو لونه أو جنسه، طائعًا على الرجاء، أي يجعلني، شخصيًّا، مسؤولاً عن أن أبذل نفسي من أجل أن يقوم إلى ما دعاه الربّ إليه.

            ليس من مخالفة، في الوجود، تفوق مخالفة أن يبرّئ الإنسان نفسه ممّا أقيم من أجل أن يعمله. فأنا لا أقدر على أن أنتظر أن يراني الله شيئًا إن تمدّدت على سريري أفكّر في مصير سواي كما لو أنّ مسؤوليّة خلاصه تقع على غيري، أو كما لو أنّني مطمئنّ إلى مصيري. ما قد يجعلني شيئًا، في عيني الربّ، أن أذكر أنّه شاء أن يخلّص الإنسان بالإنسان، أي بي أيضًا، أي، بما لا يخالف التواضع، بي أوّلاً. كلّ إنسان مسؤوليّتي. هذا ما مسحني الله به في معموديّةٍ دفعني فيها إلى أن أحمل خلاصه إلى العالم كلّه (متّى 28: 19).

شارك!

جميع الحقوق محفوظة، 2023
Skip to content